CET 00:00:00 - 12/11/2009

مساحة رأي

بقلم: أنطزني ويلسون
(ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، انزل فيها من قطار الحاضر محاولاً الاسترخاء والتجوال في شوارع وحارات ومدن وحدائق حياتي.. اثناء تجوالي أحكي للقاريء حكاية من هنا او من هناك، اربطها بحكاية اخرى او حكايات، ان اقتضي الامر العودة الى قطار الحاضر. سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر، الذي سيصبح يوماً.. ذكريات العمر اللي فات).
دعونا الآن نكمل الحكاية..

بدأ العمل بنظام البطاقات الشخصية الذي لم يعد يقتصر فقط على محافظتي القاهرة والجيزة، لكنه امتدّ الى جميع انحاء الجمهورية. اتسع المكان وأخذنا نستأجر شققا اكثر في عمارة الجندي مما حدا بالوزارة الى استعارة احد مباني فروع الوزارة القريب من المكان الذي كنا فيه.
في عام 1956 نعرف جميعا التحدي الذي حدث بعد تأميم قناة السويس. ونعرف ان عدداً كبيرا من العاملين بالمعسكرات الانجليزية في الاسماعيلية والسويس وبور سعيد بدأ توزيعهم على المصالح الحكومية. وكان لنا نصيب من اولئك العاملين الذين التحقوا بالعمل معنا وأحدهم عُين في قسم السكرتارية. حدث ان ذهبت لأستفسر عن اجازاتي المرضية والسنوية والعارضة، لكني لم اجده. ثلاث مرات في اوقات مختلفة ولم اجده. في المرة الرابعة سعدت برؤياه، فسألته بكل أدب واحترام عن اجازاتي المرضية والسنوية والعارضة فنظر اليّ باستعلاء وخرج الكلام من طرف أنفه في تكبر العظماء واصحاب السلطة والجاه، وطلب مني أن اتقدم بطلب رسمي وعليه طابع (دمغة) ثمنه خمسة قروش. في منتهى الهدوء عُدت الى مكتبي وارسلت الساعي لشراء طابع (الدمغة) وكتبت الطلب الرسمي مستفسرا عن اجازاتي. ذهبت الى الموظف ذاته وقدمت له الطلب. أمسك به باطراف اصابعه والقي به فوق مكتبه وطلب مني في صيغة الأمر ان اذهب الى عملي وسوف يبعث لي بخطاب رسمي عن طريق السكرتارية. بلغ السيف الزبى كما يقولون واصبحت روحي في (مناخيري) مدتت يدي الى الطلب المقدم مني وأطبقت عليه واخذت امزقه الى قطع صغيرة وأنا اصرخ فيه وأسبه، وكدت ان اطبق على (زمارة رقبته).. جرى اليّ الموظفون وابعدوني عنه. في وسط هذا الوضع وقع نظري على قصاصة الورق الملصق عليها طابع (الدمغة). التقطها بسرعة ودسستها في جيبي ورجعت الى مكتبي.

بعد ذلك بحوالي نصف ساعة استدعاني المفتش الى مكتبه. اخبرني بان سعادة المدير العام أرسل بطلب التحقيق معي في شأن ما حدث في السكرتارية وعليه.. اي المفتش ان يأخذني الى سعادته مع التحقيق للعرض عليه..
بدأت اجيب على أسئلة المفتش الى ان وصلنا الى سؤال كان ذلك الموظف قد إدعى عليّ بانه طلب مني ان اضع طابع (دمغة) على الطب ولكني رفضت وتشاجرت معه، تذكرت قصاصة الورق التي في جيبي. آخرجتها وقلت للمفتش الطلب امامك وقد جمعوه وهناك جزء مفقود منه، اليس هذا الجزء هو تلك القصاصة. وضعها وتطابقت بالطبع. فقلت له هذه اجابتي على سؤالك وان سبب كل ما حدث هو معاملته لي بتلك الطريقة المستفزة غير المحترمة.
انهى المفتش التحقيق وذهبنا سويا الى مكتب سعادة المدير العام. ولأول مرة في حياتي في ذلك الوقت أرى امرأة مرتدية فستانا مشقوقا من الجنب (أي مفتوح من عند الفخذ الى أسفل). ولأول مرة أرى امرأة ممسكة (بمبسم طويل في آخره سيجارة مشتعلة) كما تفعل ممثلات السينما، ولم تكن امرأة واحدة في الغرفة مع سعادة المدير العام، بل امرأتان. فوجئت بالمدير العام (لواء شرطة) يوجه اليّ الكلام بأسلوب تهكمي ساخر قائلاً (أنت ياافندي فاكر نفسك بتشتغل فين؟ بتشتغل عند الحمصاني؟). فما كان مني الا أن اجبته في لهجة اكثر سخرية وتهكم متسائلاً (هل غيرتم اسم المصلحة دون علمي؟). حدجني بنظرة مستغربة. وحدجته بنظرة متحدية. قال لنا .. المفتش وانا.. «اتفضلا اذهبا الى عملكما». ادرت ظهري وخرجت، بينما خرج المفتش (اسمه عبد السلام ولم يكن عسكريا بل كان مدنيا) وظهره الى الباب ووجهه ناحية المدير العام وضيفتيه الجميلتين الساحرتين. وقد كان هذا ثاني تحدٍّ مع المسؤولين في العمل. وهناك تحديات كثيرة وعديدة جدا أهمها التحدي التالي الذي غيّر مجرى حياتي وأثر فيها تأثيرا كبيرا، وكان  سببا في فجوة دراسية زمنية مدتها تسع سنوات منذ حصولي على شهادة التوجيهية القسم العلمي عام 1955، الى حصولي على شهادة الثانوية العامة نظام ثلاث سنوات في سنة واحدة والقسم الأدبي عام 1964.
يبدو ان رئيس السكرتارية لم يعجبه حفظ المدير العام للتحقيق الذي أجريَّ معي وسبي لاحد موظفيه. فقد حدث في صباح ذات يوم انه كان يمر امام الغرفة حيث اوجد مع عدد 15 موظفا. توقف ومد يده وأطفأ الضوء الكهربائي وادار ظهره واستمر في سيره.. اسرعت وأضأت الضوء مرة ثانية ولا أعرف كيف عرف ذلك لانه عاد وواجهني وجها لوجه واطفأ الضوء وهو يقول لي ان الثورة تنادي بالاقتصاد. فما كان مني إلا ان أضأت الضوء مرة اخرى وقلت له انني انفّذ ما تنادي به الثورة، بدلا من ان يصاب الموظف بالعمى في فترة 5 سنوات يصاب به بعد 15 سنة. في غضب شديد أطفأ  الضوء مرة اخرى وهو يضغط على مخارج الفاظه قائلا أن جمال عبد الناصر ينادي بالاقتصاد، عُدت وأضأت الضوء الكهربائي وانا في حالة ثورة وغضب وقلت له. (روح قول لسيادة المدير ان لا يرسل سيارات الشرطة لزوجات الضباط لشراء الخضروات وتوصيل الاولاد الى المدارس) أدار ظهره ومشى.

بعد حصولي على شهادة التوجيهية علمي عام 1955 التحقت، كما سبق وكتبت بكلية الحقوق جامعة القاهرة ارضاء لرغبة والدي، كان زميل الدراسة ناحوم قد رسب في التوجيهية علمي عام 1955، ليس لغباء، ولكن لحب المساعدة والظهور لضبطه عدة مرات وهو يقوم (بتغشيش) زملائه وطرد من لجنة الامتحان اكثر من مرة لنفس السبب. أعاد دراسة اثانوية العامة عام 1956. بعد الانتهاء من العام الدراسي كنت قد سمعت عن مدرسة الخدمة الاجتماعية بجاردن سيتي. بعد انتهاء العمل ذهبت الى المدرسة وتطلعت على الاعلانات المكتوبة والمواد الدراسية ووجدت بغيتي في هذه المدرسة التي تدرس الخدمة الاجتماعية وعلم النفس وغيرها من المواد المحببة الى نفسي. كان باب الالتحاق مفتوحا، وعلى راغب الالتحاق ان يشتري طلبا ثمنه (25 قرشا) يملأ البيانات ويجيب على الاسئلة والتي منها سؤال يطلب من الطالب سرد مشكلة اجتماعية ويسرد معها العلاج الناجع لها. وسؤال آخر تطلب فيه المدرسة من الطالب مقدم الطلب تلخيص احد الكتب التي قرأها حديثا سواء كان كتابا في الأدب او القصة او الشعر أو اي فرع من فروع الاجتماع وعلم النفس.
قمت بشراء طلبين (لي واحد ولناحوم آخر). ذهبت الى المنزل وبدأت في ملء الطلبين والإجابة على الاسئلة مرة باسمي وأخرى باسم ناحوم. في المساء عشية ظهور نتيجة الثانوية العامة كنت في منزل ناحوم. واتذكر جيدا تلك العشية. كنا ثلاثتنا (المرحوم عمي رياض وناحوم وانا) في البلكون نتحدث. قلت لناحوم انني اشتريت لك طلب الالتحاق بمردسة الخدمة الاجتماعية، وقد أجبت على كل البيانات والاسئلة التي في الطلب وما عليك الا ان توقع في نهاية الطلب.

صرخ فيّ عمي رياض وهو يقول لي (ولدي لن يدخل الا كلية الصيدلة).ووجدت نفسي اصرخ فيه وأقول له (ولدك لن يدخل الا كلية الحقوق وجامعة عين شمس وليس مثلي جامعة القاهرة، لأنه لن يحصل إلا على 50%).
تركني غاضبا الى الداخل، واشهد ان علاقتي به (عمي رياض) منذ ان تعرفت على ابنه ناحوم عام 1951 هي علاقة الحب والاحترام والتفاهم التام المتبادل بيننا. لذا عندما وجد مني هذا الاصرار في الحديث اقتنع وأيقن بصدق كلامي.
المهم في الموضوع ان ناحوم نجح في الالتحاق بمدرسة الخدمة الاجتماعية ورسبت انا بعد ان سحبت اوراقي من كلية الحقوق. وكان مكتب التنسيق قبل تسجيل ناحوم كما توقعت منتسبا  يكلية حقوق عين شمس لانه لم يحصل إلا على 50% كما توقعت.
تقدمت في العام الذي يليه للالتحاق بمدرسة الخدمة الاجتماعية ورسبت للتحدي الذي اظهرته لاستاذ مادة علم النفس بالمدرسة اثناء اللقاء الشفوي، وايضا الخطاب الذي ارسلته له. كان عميد المدرسة أحد الممتحنين . وكان هو نفس الممتحن وحده في اللقاء الشفوي الذي أجريً لي في العام الماضي وقضيت معه ساعة وعشرة دقائق ، مما حدى بناحوم بعد خروجى من غرفة العميد أن يجري خارج المدرسة وهو يقول " ياعم مش ممكن أقدر على المقابلة زيك ". أعدته الى المدرسة ، دخل للمقابلة التى لم تستغرق سوى سبع دقائق فقط لا غير .  لم ايأس وتقدمت مرة ثالثة ونجحت والتحقت بالمدرسة التي احببت موادها الدراسية والتي كنت اذاكرها سنة بسنة مع ناحوم.

أعود بكم الى حادثة اطفاء الضوء في غرفتي بالعمل واصراري على اضاءته والتحدي الواضح بيني وبين رئيس السكرتارية، وأكمل كل ما حدث. كان ذلك التحدي يوم سبت.. صباح يوم الثلاثاء من ذلك الاسبوع بعد ان انتهيت من توزيع العمل على الموظفين مع المفتش العقيد حامد المملوك، جاءني الى مكتبي احد سعاة المصلحة وطلب مني ان أذهب للقاء أركان حرب المصلحة.
تعجبت من الأمر.. أركان حرب المصلحة بالنسبة لنا نحن المدنيين لا علاقة له بنا الا في حالة الاستجواب لتقصير او شكوى ضد الموظف. وانا لا عندي تقصير في العمل ولا اعتقد ان هناك اي شكوى مقدمة ضدي. ذهبت اليه، قدم لي ورقة وطلب مني التوقيع عليها بالعلم بما هو مكتوب بها. قرأت ما هو مكتوب، وكان قرار نقلي الى قنا. لم أصدق عيني.. اعدت قراءة القرار أكثر من مرة، ثم القيت به فوق مكتب الاركان حرب وأنا اقول له.. هل انت متأكد من ان هذا القرار خاص بي؟!.. أجابني ببرود شديد.. اليس اسمك ولسن اسحق ابراهيم؟ اذن انت المعني بقرار النقل.
تركته واسرعت الى مكتب المفتش حامد المملوك رئيسي المباشر وقلت له في صوت مشحون بالغضب.. عايز اعرف من حضرتك ليه تنقلوني الى قنا!؟.. رد علي.. عن ماذا تتحدث؟، قصصت عليه ما حدث معي.

نهض من فوق كرسيه وتوجه الى غرفة المدير العام. بعد حوالي الربع ساعة عاد ووجهه الأبيض الممزوج باللون الأحمرـ لونه مصفر والعرق يتصبب منه. ما ان رآني حتى صرخ في وجهي قائلاً.. روح شوفلك واسطة واللا رشوة واللا داهية.. اسرع اليً العقيد فريد سلطان وأمسك بيدي متجها بين الى ركن بعيد وهو يخبرني بكل ما حدث بين حامد بك والمدير العام الذي حول المناقشة الى امر عسكري. ذهبت الى اركان الحرب وطلبت منه ضرورة مقابلة المدير قبل ان اوقع بالعلم على قرار نقلي..
(يتبع)
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق