بقلم: كمال غبريال
يبدو وكأن شعوب الشرق قد وجدت نفسها فجأة في مواجهة عدائية مع العصر، رغم أنه لا شيء في حياة الشعوب يأتي دون مقدمات وأسس، مهما بلغت قوة الأحداث المفصلية، مع ذلك فإننا لا نتجاوز كثيراً، إذا قلنا أن شعوب الشرق قد وجدت نفسها بعد 11 سبتمبر 2001، في مواجهة مع العالم المتحضر وقيمه ومنهج حياته، أي مع ما يعرف بالحداثة وما بعد الحداثة. . في تلك المواجهة صار الاستقطاب حاداً، بين العالم المتقدم وأطرافه، التي تسعى بثبات على ذات نهجه الحداثي، في شرق وجنوب شرق آسيا والصين، وبين جيب كبير يمتد من باكستان شرقاً إلى مراكش غرباً، ومن سوريا والعراق شمالاً إلى الصومال وأريتريا والسودان جنوباً. . ذاك هو الشرق الكبير.
تشير جميع التقارير الدولية والإقليمية، بجميع المقاييس والمؤشرات، أن شعوب المنطقة متعثرة وعاجزة عن ولوج عصر الحداثة، رغم موقعها الجغرافي في منتصف العالم، وتعرضها عبر التاريخ لموجاته الحضارية، ما كان كفيلاً بتناغمها وتزامنها مع مسيرة البشرية. . لكن هذا لم يحدث، بل وأقصى ما نتج عن تعرض المنطقة لتلك التيارات، الدفع بالأمور إلى ظاهر حداثي، لم تفلح مقوماته في التجذر في أرض الواقع، فكان أن صارت دول ومجتمعات المنطقة مسوخاً مشوهة، بما تضمه من تناقض داخلي، أفرز تقلصات شكلت مع معوقات التخلف الأصلية ملامح ورطة حضارية، جعلت شعوب المنطقة تتخبط في دائرة مغلقة، بحيث تفضي أي حركة للأمام، إلى تدهور نحو قاع يبدو بلا نهاية، وهي النتيجة التي نراها جلية، بعد ما سمي بمرحلة الاستقلال والتحرر الوطني في خمسينات وستينات القرن العشرين، لتأتي الألفية الثالثة ونحن نستجدي الاستعمار (ولو تحت تسمية الأمم المتحدة، أو قوات تحالف)، لتحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه!!
كان يمكن أن تظل المنطقة تتخبط في تناقضاتها الداخلية، فتنشب فيها صراعات محدودة لا تلبث أن تخمد، في دورات تؤدي إلى حالة يمكن وصفها بالاستقرار، حتى وإن كان استقراراً قلقاً ومتدهوراً حضارياً، بمعنى تفاقم الأزمات في حدود داخلية، مثل تدهور الأحوال المعيشية والصحية، بالتوازي مع الزيادة الانفجارية في النسل، دون أن تمتد تأثيراتها إلى العالم الخارجي بصورة حادة وفجة.
لكن ما حدث هو أن أخذ التدهور الداخلي المنحى الذي أدى بنا إلى إنتاج ما يعرف بالإسلام السياسي، أو ما يمكن تسميته بفكر تنظيم القاعدة ورجاله، وهو الإنتاج الذي ساهمت فيه، أو أنتجته في تزامن جميع شعوب المنطقة، رغم أن إرجاع الفضل إلى ذويه، يقتضي أن نشير إلى نجاح جماعة الإخوان المسلمين، التي تأسست في مصر في ثلاثينات القرن الماضي، في خلق قاعدة ممتدة باتساع المنطقة، ساهمت في هذا التناغم والتزامن، لينجب هذا الفكر طالبان في أفغانستان وباكستان، وجماعات الجهاد المختلفة في فلسطين ومصر ولبنان والعراق والسعودية والسودان والجزائر والصومال واليمن.
هذا الإنتاج الجهادي الإسلامي -والذي تعملق كماً وكيفاً بفضل الثروات البترولية لدول الخليج- استشعر القدرة على تجاوز الحدود الإقليمية لدائرة إنتاجه، فكان أن امتد إلى العالم الخارجي، ليصل ذروة أدائه بغزوة نيويورك في 11 سبتمبر 2001، ليبدأ العالم بعدها ما نشهده من ضغوط، لتحديث منطقة غير مؤهلة أصلاً لتقبل الحداثة، لسبب نراه بسيطاً، وهو عدم اكتمال مقومات الحداثة في تربة المنطقة!!
إن جوهر عملية الإصلاح المستهدف، هو تكوين دول حديثة ديموقراطية، تقوم على أساس المواطنة واحترام حقوق الفرد والأقليات، وتفتح أبوابها للعالم أخذاً وعطاء، والمعضلة هي أن المنطقة لم تصل إلى المستوى الحضاري الذي يجعلها مؤهلة لذلك، فنحن أساساً لسنا أمام دول حقيقية تحتاج إلى تطوير وتحديث، بل نحن إزاء شعوب في مرحلة العشائر والطوائف والعائلات. . حتى مصر صاحبة أقدم دولة مركزية في التاريخ، توقفت اجتماعياً وقيمياً، عند مستوى مجتمع حضارة الزراعة، المكون من وحدات من الكيانات القروية الصغيرة، التي أساسها العائلات والعصبيات، وتعجز حتى الآن عن التحول إلى مجتمعات عصر الصناعة، ونرى هذا واضحاً في تركيبة العاصمة والمدن المصرية، الأشبه بتجمعات قرى عشوائية، صارت تحكمها قيم الريف وعلاقاته. . فكان أن جاء فرض شكل الدولة بمواصفاتها الحديثة على هذه الشعوب تعسفياً، لهذا جاءت جميع المواليد مشوهة.
الدولة الحديثة كما نعرف جميعاً هي وليدة الثورة الصناعية والطبقة البرجوازية، الممثلة لأمة قد انصهرت في واحد، سواء من حيث نمط الحياة والأفكار، أو من حيث المصالح المادية وتشابك علاقاتها، فكانت الدولة الواحدة والديموقراطية والحرية وصناديق الانتخاب. . حيث يستشعر الفرد انتماءه إلى كل أكبر هو الوطن الواحد، وبأن مصالحه ممتدة باتساع هذا الوطن، فعند هذه المرحلة فقط تتكون الدولة الوطنية الحديثة، وعندها فقط يكون الشكل متطابقاً مع المضمون، وعكس هذا هو ما حدث مع منطقة الشرق الكبير.
لقد توقفت هذه المنطقة عند مرحلة العشائرية والطائفية والعائلية، وعجزت عن تجاوزها لما بعدها من مراحل حضارية، ونستطيع الزعم أن وجود المنطقة في مهب رياح التأثيرات العالمية، قد أضر بها ربما أكثر مما أفاد، إذ عجل بظهور الدولة الوطنية دون توافر مقوماتها على أرض الواقع، فكان التناقض الحاد بين الشكل والمحتوى، بين المظهر الوطني والباطن الطائفي، وكان أن عجز الفرد عن تصور نفسه كمواطن مشارك لأقرانه باتساع الوطن في الحقوق الواجبات، وبقي أسير تصور نفسه ضمن الانتماء العشائري أو الديني.
هكذا حكم صدام حسين - مدعي القومية والعلمانية – العراق بمنطق طائفة السنَّة، فهمَّش الأكراد والشيعة، إلى حد الاضطهاد والتنكيل، بل وحكم السنَّة بعائلته التكريتية، التي احتكرت جميع المناصب الحساسة والمؤثرة. . كذا عائلة الأسد العلوية في سوريا، رغم شعارات البعث القومية التي تلطخ الجدران ، لم تؤسس فعلاً دولة قومية ولو على مستوى الوطن السوري محدود المساحة، وإنما استمرأت قيادة مجموعة طوائف تحت مسمى دولة قومية. . لبنان أيضاً رغم أنه الديموقراطية الوحيدة في صحراء العرب الجدباء، ليس دولة وطنية حقيقية، فقد بقي الفرد فيها أسير انتمائه الطائفي والعائلي، فالسنَّة عائلات، والشيعة عائلات، والموارنة عائلات. . بهذا تصبح الديموقراطية ملهاة، وصناديق الانتخاب مهزلة، وتكون الدولة مسخاً، لأنها متناقضة مع حقائق الواقع على الأرض، أي مع المرحلة الحضارية التي يمر بها المجتمع، وكان أن حدث ومازال ما يتحتم أن يحدث لحالة كهذه، فبدلاً من أن تتطور التجربة الديموقراطية وتتعمق، تسقط لبنان في دورات من التمزق والفرقة، كما حدث في النصف الثاني من الخمسينات، ثم في السبعينات، لتسقط بعدها في براثن البعثية العلوية الممسوخة، ثم يأسرها حزب الله الإيراني الشيعي، لتصير رهينة الطائفية والعداء للحضارة في آن.
وسط موجة التشرزم العنصري هذه، ليس لنا أن نستغرب أن يصيب فيروس الطائفية الدينية، أقدم دولة قومية في العالم وهي الدولة المصرية، كأنما لتحجز مكانها في قطار التخلف، فنجد رئيسها يدعي على نفسه بما ليس لموقعه، حين يعلن السادات في مكابرة ونفاق وتبجح، أنه يحكم مصر كرئيس مسلم لدولة إسلامية، ليخلع ببساطة وغباء رداءه الوطني، ويقفز في بركة موحلة من التعصب الديني!!. . ولأن مصر لم تكن بالأساس قد استكلمت تحولها إلى حضارة عصر الصناعة، جاء سقوطها في هاوية التحزب الديني سريعاً وفادحاً، فسمعنا شعار عودي يا مصر إسلامية، وقد صار الدين هو الوطن، لنجد أنفسنا في بضع سنوات، وقد تقهقرنا أربعة عشر قرناً للخلف. . ترتب على هذا بالتبعية، انسحاب الأقباط إلى الانتماء إلى الكنيسة، باعتبارها وطنهم البديل.
هكذا يكون القاسم المشترك بين جميع دول المنطقة واحد، وإن تفاوتت الدرجات، من مجتمعات بدوية صرف، إلى مجتمعات تقدمت بضع خطوات، ولم تلبث أن تعثرت. . فمشكلة النظم الحاكمة ليست في النظم ذاتها، بقدر ما ترجع إلى عدم مناسبة النظام الوطني الحديث، لمجتمعات تعيش بعقلية وعادات وتقاليد وقيم العشيرة والعائلة والطائفة، ومحاولة حرق المراحل هنا، ضرب من خداع الذات، أو مناطحة الصخر، ينطبق هذا بالطبع على ما تحاوله الولايات المتحدة وحلفاؤها الآن، من جرنا جراً إلى قيم وفكر الألفية الثالثة.
لن تتطور هذه الشعوب تحت ضغط السلاح، وإنما بنجاح خطط التنمية الاقتصادية، والتي ستجر معها التنمية الاجتماعية بمفهومها الشامل. . عندها سوف تترسب في التربة تدريجياً قيم الحداثة وحقوق الإنسان، وهي الدعائم الأساسية لبناء دولة حديثة، تقوم على المواطنة.
kghobrial@yahoo.com |