في دردشة على مائدة عشاء لفت انتباهي ما قاله مفكر عربي يزور مصر عما وصفه بظاهرة الغاضبين الذين يقف معهم الحوار في حدود أفق قصير النظر, وينقطع التواصل في مجال التحليل الموضوعي للأحداث باعتبار أن الغضب لا يسمح بأكثر من الإحباط ويمنع تقديم أي مساحة أمل. وهي ظاهرة تبدو محيرة على حد قول صديق آخر قال لي في بداية العام في القاهرة إنه لا يفهم ظاهرة ترويج مشاعر الإحباط واليأس, أو الحديث عنها باستمرار وكأنها موضة, ففي أحيان يبدو الأمر في خارج سياقه عندما يتحدث شخص أو أشخاص ظروفهم لا بأس بها، محملين مسؤولية مشكلات لا علاقة لها بقضايا عامة بمناخ عام أو سياسات عامة, أو اعتبار أن هناك مؤامرة في كل شيء.
المشكلة في ظاهرة الغضب هذه أنها تمنع الرؤية الصحيحة الواقعية للأمور داخليا وخارجيا, أو التفكير بشكل عقلاني في المستقبل, وفي نفس الوقت إحباط الآخرين من التفكير إيجابيا باعتبار أن الغضب في بعض الأحيان يكون دليل الوطنية والنخبوية.
لكن إذا حاولنا أن نمسك الخيط من طرفه الآخر الذي يتجنب الوقوع في نفس فخ الإحباط والغضب فقد نرى جانبا متفائلا في جوهر هذه الظاهرة, وهي أنها رغبة في الاستفادة من مساحة شهدت توسعا في السنوات الأخيرة لمساحة الحوار الداخلي سواء في القضايا التي تطرح أو الأدوات المستخدمة في طرحها في الصحف والقنوات التلفزيونية ودردشات الإنترنت إلى آخره, مع الأخذ في الاعتبار أنه حتى كل هذه الوسائل لا تعطي صورة حقيقية عن حالة الكتلة الصامتة الكبيرة لأن أطراف الحوار أو حتى المحبطين والغاضبين هي في كل هذه الأدوات.
مساحة الحوار هذه أخذت خطوات أبعد في الأسابيع الأخيرة قبل انعقاد مؤتمر الحزب الوطني الحاكم في مصر وخلاله لتشمل جدلا علنيا وأخذا وردا حول قضايا لم تكن مطروقة بهذا الشكل سابقا، مثل مسألة انتقال السلطة والمستقبل السياسي والإصلاحات, والاستحقاقات الانتخابية المقبلة في العام 2010, وهو أمر لا بد لأي متابع من الخارج أن يخرج بانطباع إيجابي عنه باعتباره جدلا صحيا ينشط الحيوية السياسية للمجتمع بغض النظر عن الأفكار التي تطرح, ما دامت تطرح في إطار قوانين ودستور البلاد.
وليس المقصود هنا رسم صورة وردية لكل الأشياء لأننا نتحدث في النهاية عن مجتمع نامٍ يواجه الكثير من التحديات والسلبيات, ولا يزال يؤسس تجربته في التعددية السياسية, وحديث الإصلاح سواء على الصعيدين السياسي أو الاقتصادي يمر بتعرجات وليس دائما في خط مستقيم، وتتقاطع معه أزمات إقليمية سياسية كبرى في منطقة تشهد بؤر توتر مشتعلة, أو جدلا داخليا حول أفكار تشد إلى الوراء. ومن المفيد للمتابعين رصد علاقة تعرجات مسيرة الإصلاح بتأثيرات الأزمات الخارجية, والكيفية التي يمكن بها تجنيبه حالة الشلل التي تصيبه عندما تحدث هذه الأزمات.
وانطلاقا من نفس طرف التفاؤل في الخيط فإن ما يستحق أن يرصد هو ما طرح في مؤتمر الحزب الحاكم عن نية الحكومة بحث قضية الدعم السلعي الذي أعطى نظيف رئيس الوزراء تقديرا أنه وصل إلى 90 مليار جنيه, وأنه يفوق الإنفاق على التعليم والصحة اللذين يمثلان استثمارا في المستقبل, وكيفية إيجاد وسيلة سواء ببطاقات أو غيرها لتقنينه، بحيث يستفيد منه الفقراء أو المحتاجون بدلا من الشكل الحالي الذي يستفيد منه الجميع، قادرون وغير قادرين. الإيجابي في ذلك هو طرح موضوع بمثل هذه الحساسية الاجتماعية في عام انتخابات تشريعية, فمسؤولية الحكومات هي التعامل مع الحقيقية وليس خداع الرأي العام طلبا لصوته في صندوق الاقتراع, وفي النهاية فإن الرأي العام يقدر من يقول له الحقائق ويتعامل معها, ويعطيه أملا. وإذا نظرنا إلى تجربة ديمقراطية عريقة في بريطانيا فسنجد الحزبين المتنافسين العمال والمحافظين اللذين يقتربان من انتخابات عامة لم يخشيا مصارحة الرأي العام بحقيقة تكلفة الأزمة المالية, وأن الأموال التي أنفقت على خطط الإنعاش سيدفع تكلفتها الناخبون من خلال خفض تقشف وضرائب لخفض الدَّين العام.
نقلا عن جريدة الشرق الاوسط |