بقلم: محمد عبد الفتاح السرورى
* أكاد أجزم بيقين راسخ أن هناك فجوة هائلة بين الخطاب الديني المطروح وبين حقيقة الواقع المعاش... وأكاد أجزم أيضًا أن الرواسخ، والثوابت الإجتماعية تعد مسئولة عن الحالة التي تعيشها المرأة المصرية، بل وأؤكد أن العادات والتقاليد الإجتماعية، كثيرًا ما يتغلب خطابها على خطاب الأوامر والنواهي الدينية، وأن الموروث الاجتماعي له الغلبة في سياق الحديث عن المرأة المصرية وأحوالها، ولكن (الموروث الديني والموروث الاجتماعي) يشتركان سويًا في النسق العام الذي يشيع جوًا من العداء تجاه المرأة، وتجاه نضالها في الحياة، حتى لو كان هذا النضال نضالاً شريفًا.
قضية عمل المرأة :
ذكر أحد المفكرين يومًا (أننا لا زلنا نرواح في المكان نفسه) وتذكرتُ هذه المقولة الحقه عندما يأتي الحديث عن عمل المرأة، وهل عملها أولى بها أم بيتها ...
وسبب تذكري لهذه المقولة هو أننا -وحتى الآن- ونحن نقترب من توديع العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرون. لا زلنا نردد نفس المفاهيم ونطرح نفس القضايا ونتناقش في نفس المشكلات التي كانت مطروحة في بداية القرن المنصرم وربما قبل ذلك أيضا.. ومعنى هذا أننا بالفعل لا زلنا نراوح فى المكان نفسه.
تعد قضية عمل المرأة من القضايا الشهية لدى رجال الدين، ومن يتبنى خطابهم العام. فهم في مجمل آرائهم يرفضون عمل المرأة من حيث المبدأ وعملها، من وجه نظرهم يكون إضطراريًا؛ لمواجهة شظف العيش أو لأن ليس لها عائل يعيلها وهنا مكمل رفضنا وجوهر خلافنا معهم.
لأننا نرى في هذا المقام إن عمل المرأة من حيث المبدأ هو(حق لها) ولا يجوز لأحد أن يصادر عليها هذا الحق. كما أن عمل المرأة يجعل منها كائنًا متفاعلاً مع الحياة ومندمجًا في الواقع، وليس في معزل عن المجتمع.
فنحن نرى أنه لا يجب أن يكون بين المرأة وبين الحياة(حجاب).
أما عن الحجة التي يسوقونها بأنه إذا كانت للمرأة مُعيل فلا داع لنزولها للشارع وإحتكاكها بالرجال- وما قد يستتبع ذلك من ضرر أو أذى يقع عليها من الرجال -نقول ببطلان تلك الحجة ولنا على بطلانها (دليل وبرهان).
أن الواقع والشاهد مجريات الأحداث تستنطق العقل بغير ذلك، وبمعنى أنه حتى لو كانت المرأة في كنف رجل فليس هذا معناه أنها في غنى عن العمل والكفاح ولكي لا يكون كلامنا مرسلاً، نسوق بغيتنا من خلال الأمثلة التالية وجميعها أمثلة حقيقية، لنساء لا زلن على قيد الحياة ولا يزال بعضهم يمارس دورة النضالي ضد المجتمع وضد ثقافة الفقه والفكر الذكوري المتخلف؛ أى أننا لا نأتي من بنات أفكارنا بشئ بل نؤكد أن الأمثلة التالية هي لشخصيات حقيقية.
(ز.ع) سيدة توفى زوجها وترك لها ثلاث أبناء (إثنان من الذكور وطفلة)، وكان أكبر أبناءها -حين توفى الزوج- يبلغ من العمر سبع سنوات والطفلة خمس سنوات أما الطفل الثالث فكان لا يزال رضيعًا، لم يبلغ الفطام إلى هنا، والأمر عادي لا غريب فيه، ولكن العجيب في أمر هذه الحالة هو أن الزوج الراحل كان يرغب مثل غيره ألا تعمل زوجته، وأن تتفرغ لتربية الذرية، ولكن الزوجة بكل عقلانية رفضت ترك عملها الثابت الآمن ورضخ الزوج آنذاك بضرر، ونزل على رغبة زوجته. وما هى إلا سنوات قلائل حتى قبض الله روح هذا الزوج، ووجدت هذه السيدة نفسها مسؤلة عن أطفال كان أكبرهم في السابعة من عمره كما ذكرت.
صحيح أن الزوج كان له معاش بحكم عمله في أحد مصانع القطاع العام -قبل التفريط فيه وبيعه بسبب سياسة الخصخصة اللعينة- إلا أن المعاش وحده لم يكن يكفي إعالة هذه الاسرة التي تتكون من أربعة أفراد... ولولا (عمل الزوجة) -المرأة- ما إستطاعت -وهي وحدها- أن تقوم بتربية الثلاث أبناء حتى يصلوا جميعًا لبرالأمان ويتزوجوا جميعهم وينجبوا... ويؤكد لنا الأبن الاكبر (لهذه الام) أنه وهو صغير كان يشعر بأنهم أغنياء على الرغم من تواضع مسكنهم وحياتهم بصفة عامة إلاأنه -فعليًا- لم يكن محرومًا لا هو ولا أخوته من أى شيء، خاصة (الطعام والملابس)، والتي كانت أمهم المناضلة تشتريها لهم من أفضل محال الملابس ومن أرقى شوارع المدينة التي يعيشون فيها.. لم تتأخر يومًا عن تسديد مصاريف الدراسة أو الإمتناع عن شراء ما يحتاجونه من كتب خارحية ولم يأتي عليهم عيدًا إلا وكانت ملابسهم الجديدة معلقة أمامهم لا حرمان على الاطلاق وتسوق هذه السيدة الفاضلة لنا أن بعض زملائها في العمل( من الذكور) كانوا أحيانًا يقترضون منها ... ولم تعرف -لا هي ولا أحد أبناءها يومًا- الإستدانة ولا عرفوا جميعهم للديون طريق .
وليس هذا فحسب فلم تنتهي القصة عند هذا الحد، ببلوغ هذه السيدة سن الإحالة للمعاش، كان في إنتظارها مكافأة نهاية الخدمة وهوالمبلغ الذي أتمت به زواج أبناءها.
فكيف كان سوف يصبح حالهم إذا اكتفوا فقط بمعاش الزوج الراحل؟
وعندما ذهب الإبن الأكبر للمحكمة؛ لرفع الوصاية عنه عند بلوغه سن الرشد فوجئ أن المبلغ المتروك له فى المجلس الحسبي كما هو لم ينقص (جنيهًا واحداً)، فلقد كان عملها يغنيها عن الاحتياج للجوء الى المجلس الحسبي لصرف ما تحتاجه لمواجهة الحياة.
لقد كان عملها وكفاحها ونضالها يغنياها عن أي شئ . لقد عفت هذه السيدة الفاضلة نفسها وأبناءها عوز الحاجة وإمتهان الأقتراض، وإستطاعت وحدها وبعملها الذي إستمرت فيه أكثر من ثلاثين عامًا أن تغني نفسها وأبناءها.
لقد كانت هذه السيدة زوجة لرجل يعمل وكان من الممكن ألا تعمل ويكتفيان سويا بدخل الزوج ولكن لأن الله أحيانًا، يهب بعض الناس فطنة وبُِعد النظر، رفضت هذه السيدة أن تترك عملها وأن تستمع لصوت المجتمع الذي يجري نساؤه إلى الوراء جرًا، وتشبست بعملها فكان نعم التشبس.
فصانت كرامتها وكرامة أبناءها ولم يحتاجوا جميعا لا إلى خال ولا إلى عم...
والحالة الثانية التي أسوقها هنا.... هي حالة زوجة(ع.م) لم يتوفى زوجها ولكن تزوج عليها ، تزوج بعد حياة بينهما دامت أكثر من عشرين عامًا أثمرت عن أبن وابنه.
وكالعادة في بداية زواجهما كان الزوج يرغب وبشدة وعنف(لازلت أتذكره) في أن تترك زوجته العمل ولكنها أصرت ومرت السنون ... وإذا بهاذ الزوج يتزوج بأخرى- كما ذكرت- واذا بالزوجة تجد نفسها وحيدة مع ولديها بعد أن إستنزفت الزوجة الثانية دخله وأصبحت الزوجة الأولى هي التي تتولى الانفاق على نفسها وعلى ولديها ...
وحالة ثالثة لسيدة (ه.ع .ال) توفى زوجها وترك لها إبنتان لا تزالا في مرحلة الطفولة، ورغم أيضًا أن الزوج كان يعمل إلا انه لولا عمل الزوجة، لكانت الآن ضيق وضنك، ولكن لأنها إختارت حياة الكفاح والنضال حمت نفسها، وصانت أبنتيها من الإحساس بالحرمان والفقر، خاصة وأنها ليست على وفاق مع أهل زوجها الراحل الذين لم يتركوا لها شيئًا إلا، وحاربوها فيه وكأن من مات ليس بأخيهم الذي ترك لهم طفلتان هما أيضا في حاجة للأحساس بالإنتماء لأسرة كبيرة، ووجود الأعمام والعمات الذين يرونهم دومًا، بحكم تشاركهم في المسكن الواحد، والعمل الذى تعمل به هذه السيدة الفاضلة ليس عملاً مكتبيًا مرفهًا، بل هو عمل يحتاج منها إلى مجهود وحركة دائبة، وقبل أن تذهب إلى عملها يبدأ يومها برحلة منذ السادسة صباحًا، حيث تذهب أولا لبيت أهلها كي تدع إحدى طفلطيها هناك، ثم تذهب إلى عملها، وبعد أن ينتهى العمل تأخذ رحلة الصباح بالعكس إلى أن تعود إلى بيتها؛ لتبدأ رحلة الإستذكار مع الأبنة الكبرى (التى لا تزال صغيرة) وهكذا يوميا .
رحلة من العناء والكد والمعاناة والكفاح، يهرب منها بعض الرجال احيانًا. ولاتزال هذه السيدة حتى كتابة هذه السطور على عهدها برعاية بناتها وافية.
الأمثلة السابقة ليست من محض الخيال، بل هما حقيقة معاشه ولكننا فقط نسوقهما لنبرهن على أن، حتى وإن كان الزوج يعمل فليس هذا معناه إستغناء الزوجة عن العمل؛ لأن عملها فيه أمان لها من تقلب الأيام ومن غدر الأزواج وتلك حقيقة – لعمري – لتائهة عن أبصار الكثيرين الذين يستعذبون الإستماع لخطاب اجتماعي وديني وثقافي شديد الرجعية والتخلف وبعيد كل البعد عن واقع الحياه الفعلى، ولا يرون المستقبل ويالها من بديهيات يعمون عنها جميعا.
ولنعود لسياق حديثنا... ومبتغى قولنا ... إننا نناضل مع المرأة ونقف بجوارها في سعيها الحثيث نحو تبوأ المكانه اللائقة بها ... إننا نناضل ونقاتل معها ضد ثقافة ذكورية كريهة لا تنظر إلا تحت قدميها ولا تقرأ الواقع ولا تملك لا قدرة على إستشفاف غوائل المستقبل ...
إننا نقف معها ضد خطاب مغيب للعقل مضاد للكرامة مناهض للآدمية ... نقف معها، ومع من يناضل ضد الظلم والقهر والتعسف، ضد الغياب عن الواقع في سبيل إرضاء عقليات إرتضت بالغيبوبه حلا ورأت فى الإستسهال نموذجًا للحياة، نموذجًا رفضته أوليات العزم من النساء. |