بقلم: كمال غبريال
لا أخفي على القارئ الكريم، أنني أكتب هذا المقال على مضض، بعكس ما قد يكون القارئ قد لاحظه في كافة ما أكتب، وهو أنني أكون عادة متحمساً لمشاركة الآخرين فيما يدور بالرأس من أفكار وتأملات. . فصديقي د. زيدان يكتب سباعية، يريد لها أن تكون تنويرية، وأجبرتنا قيمته العلمية، وروعة أسلوبه الأدبي، أن نلهث وراءه من أسبوع لأسبوع. . نؤيده ونحييه تارة، ونتتبع ما يقع فيه من مخالفة للمنطق وأصول التناول العلمي تارات أخرى. . لكن ما يصيبنا بالملل والضجر، أن يصر سيادته على ارتكاب نفس الأخطاء المنطقية، في سياق محاولاته المستميتة للمساواة في توزيع تهمة إفساد الجماهير والثقافة الوطنية، بين أطراف لا متساوية ولا متماثلة في أغلب جوانب ما يتعرض له سيادته من قضايا. . يصيبنا بالضجر واللاجدوى أيضاً، أن تمعن مقالاته في إساءة قراءة التاريخ، وإساءة توظيف وتطبيق تلك القراءة على واقعنا المعاصر، بل والمدهش أن يقترف مفاهيم تجعلنا آسفين، ننوه بعجزه عن الفهم المجازي لنصوص مجازية بامتياز، واستغلالها وفق مفهوم حرفي، بطريقة معاكسة تماماً لسياقها ومدلولها المستقر عليه، مدفوعاً بالشغف لالتقاط ما يؤيد، ما حدده هو مسبقاً من نتائج. . على مثال قول سيادته في مقاله المنشور في المصري اليوم، يوم 21/10/2009، بعنوان: "أُغلوطةُ الجهادِ وحدُّوتةُ حبِّ الاستشهادِ":
" ومنها أنه قال (يقصد السيد المسيح) بوضوح فى إنجيل متى، وإنجيل لوقا : "لا تظنوا أنِّى جئت لأحمل السلام إلى العالم، ما جئتُ لأحمل سلاماً بل سيفاً، جئتُ لأفرق بين الابن وأبيه، والبنت وأمها، والكنَّة وحماتها، ويكون أعداء الإنسان أهل بيته.. جئتُ لألقى ناراً على الأرض، وكم أتمنى أن تكون اشتعلت، وعلىَّ أن أقبل معمودية الآلام، وما أضيق صدرى حتى تتم. أتظنون أنى جئتُ لألقى السلام على الأرض ؟ أقول لكم: لا، بل الخلاف.. (متى ١٠: ٣٤- لوقا ١٢: ٤٩"
هو نفس ذات الاستشهاد اليتيم، الذي يحاول يوسف زيدان أن يثبت به أن المسيحية تدعو إلى العنف وإعمال السيف، أورده في روايته عزازيل، ويعود ليكرره اليوم. . ونحن إذ نقلب ما يعرضه علينا في رؤوسنا اليوم، لا نفعل ذلك من منطلق ديني تقوي، بل كدارسين لنصوص تراثية، بحثاً عن تأثيراتها في واقعنا اليوم. . لهذا يكون الحيود عن الدقة العلمية خطيراً، وذي تأثير معاكس لما نهدف ويهدف إليه يوسف زيدان معنا من تنوير.
دون أن يكون في تساؤلنا محاكمة لنيات كاتب، وإنما محاكمة لنصوصه، وما يشيع فيها من منطق، نتساءل إن كان يوسف زيدان حقاً قد فشل في إدراك معاني ومنطق عبارت السيد المسيح، والتي تكاد تكون جميعها عبارات مجازية، على نمط "إذا أعثرتك عينك فاقلعها" و"إذا أعثرتك يدك فاقطعها"، دون أن يكون المقصود بالفعل هو قلع وقطع أجزاء جسد الإنسان، فالإثم يرتكبه القلب أو العقل، وليست العين أو اليد!!
ليس من المتصور أيضاً أن يكون يوسف زيدان الدارس المدقق، لم يقع نظره على قول السيد المسيح: "ُرد سيفك إلى غمده، لأن من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ". . قالها في أحرج موقف يمكن أن يتعرض له أحد، وهو موقف القبض عليه من قبل الجنود، وفق مؤامرة شارك فيها يهوذا أحد تلاميذه، وليس في موقف دعائي، يغطي به على تحريضات ووصايا أخرى مضادة!!
الخطيئة الكبرى التي يرتكبها باحث أو دارس أو محلل في حق نفسه، هو أن يضع العربة أمام الحصان. . أن يحدد النتيجة مسبقاً، ثم يدور بعد ذلك يتسول مبرراتها، ولن يتأتى له ذلك غالباً، إلا بلي عنق الحقائق المادية والنصوص على حد سواء. . هو يريد أن يخلص إلى قرار (وليس نتيجة حقيقية)، نجدها في ذات المقال المشار إليه، بقوله:
"وقد يتوهم كثيرون، أن الدين الإسلامى ينفرد من بين (الأديان الثلاثة) بالدعوة إلى الجهاد، أى الحرب باسم الدين. . . . . . المهم، أن الدعوة إلى الجهاد ليست مقصورة بحالٍ من الأحوال على الدين الإسلامى، ففى اليهودية أنموذجٌ رهيبٌ لها يُعرف اصطلاحاً لدى دارسى التوراة باسم حروب الربِّ."
لا شأن لكاتب هذه السطور بمفهوم الجهاد في الدين الإسلامي، فقد قام الفقهاء المسلمون بالواجب في هذا المجال. . نحن فقط نقارن بين ما سمعنا منهم عن مفهوم الجهاد الإسلامي، وبين ما يحاول د. زيدان تلبيسه عنوة للمفاهيم اليهودية والمسيحية، فيضطر إلى تشويه الفهم المنطقي لكلمات السيد المسيح، كما ورد أعلاه، ويذهب إلى فهم مضحك لكلام لبولس الرسول، حين يقول في مقاله:
"وقول بولس الرسول فى رسالته الثانية إلى تيموثاوس (الإصحاح الثانى): احتمل المشقَّات، كجندىٍّ صالح ليسوع المسيح.. هناك إذن حرصٌ مسيحى على نشر البشارة (الديانة) بل هو تكليفٌ واضح يدعو للمضى قُدُماً فى دعوة الناس جميعاً إلى طريق (الخلاص) ويدعو لاحتمال المشقَّات مثلما يحتملها الجنود. ولذلك، لم يجد المسيحيون الغربيون بأساً فى حمل السيف باسم الدين، فظل العالم عدة قرون يكتوى بنيران الحروب الصليبية، وبغيرها من الحروب التى قادتها الرغبة فى نشر (الديانة) فى العالم"
هل إلى هذه الدرجة يفشل يوسف زيدان في فهم الكلمات، أو يسئ عن عمد قراءتها؟
تعبير بولس هذه المرة ليس مجازياً، لكنه تشبيه، يشبّه احتمال المشقات، الذي يوصي تلميذه المبشر به، باحتمال الجندي الصالح، فهل في هذا دعوة للعنف يا دكتورنا العزيز، أو هكذا تعطي لنا مثلاً في فهم النصوص، وأنت تعرف بالتأكيد من دروس البلاغة، أن التطابق بين المشبه والمشبه به، يكون في نقطة محددة هي مناط التشبيه، وليس في بقية صفات المشبه به، وهي في حالتنا هذه مجرد الصفة السلبية، أي احتمال المشقات، وليس في إشهار السيف، وممارسة القتل والقتال؟!!
تحوي العبارة السابقة المقتطعة من المقال أيضاً، إساءة قراءة للتاريخ، فهل قال أحد من قبل، أن حروب الفرنجة (المعروفة بالحروب الصليبية) كانت لنشر الدين المسيحي، بناء على وصايا دينية، وردت في الأناجيل أوالرسائل الملحقة بها؟
هل قامت الجيوش الصليبية بتخيير شعوب منطقة الشرق الأوسط بين المسيحية أو الجزية؟
ألم تكن الرسالة المعلنة (ناهيك عن الأجندات الخفية والمعروفة لدينا) للحملات الصليبية، هي تحرير الأماكن المقدسة، أي أنها تهدف للسيطرة على أرض وأماكن مقدسة، وليس لإجبار أحد على اعتناق دين، وشتان الفارق بين الاثنين، ما ندركه حالياً جيداً، بدعواتنا لتحرير القدس والمسجد الأقصى من السيطرة اليهودية؟
نعم يا سيدي، عندما نقرأ حروب العهد القديم في التوراة، نجد ما نعتبره الآن وبمقاييس عصرنا، جرائم في حق الإنسانية، ما نوهت عنه في مقالك قائلاً:
"وهى الحروب التى قادها يهوشع بن نون، وأباد خلالها ثلاثين مملكة بفلسطين.. باسم يهوه.. باسم الربِّ.. باسم الإله التوراتى الذى أعطى الوعد (العهد) القديم، لأبى الأنبياء إبراهيم."
لكن كل من يقرأ هذه الكلمات الآن من المؤمنين المسيحيين أو اليهود، يقرأها كتاريخ مضى، ولا يفكر إطلاقاً في تكراره، أو في انتهاج المناهج والمقولات التي بررته. . فهل يقبل بن لادن وصحبه، أن ينتهجوا ذات المنهج المعاصر لفهم التاريخ القديم؟!!
سوف أضطر آسفاً إلى الاكتفاء بهذا القدر، من تفنيد ما حفل به المقال المشار إليه، من أغلاط ومغالطات، وأترك البقية للقارئ، عله يتمكن من تلقاء ذاته، من اكتشاف مغالطات أخرى عديدة وقاتلة لكل منطق واستقامة فكر. . فلقد أرهقني د. يوسف زيدان بحق، حين كرر منهجه، واضطرني لتكرار شرح، ما لا يحتاج في نظري إلى شرح!!! |