بقلم: ماهر ميشيل
هل تعلم أن النصب التذكاري الموجود على طريق النصر أمام إستاد القاهرة بمدينه نصر قد صُمم في شكل هرمي مُفرغ من الخرسانة ارتفاعه 31.64م وعرض الحوائط عند القاعدة 14.30م وبسمك 1.9م ومدون على حوائطه الأربعة عدد 71 اسماً رمزياً للشهداء، واختير الشكل الهرمي للنصب التذكاري رمزاً لفكرة الخلود والتي كانت تهيمن على حضارة أجدادنا المصريين القدماء، وفى منتصف فراغ الشكل الهرمي يوجد مكعب من البازلت المصمت لقبر الجندي المجهول، وأنه تم التصميم والإنشاء للنصب التذكاري بأيدي المهندسين والفنانين المصريين وبدأ العمل به في 25 مايو 1975 وحتى 5 أكتوبر عام 1975،وفي أكتوبر 1981 شيد قبراً للرئيس الراحل/ محمد أنور السادات خلف رمز الجندي المجهول، وفي أكتوبر 1991 تم تطوير ساحة النصب التذكاري حيث أضيفت (2) نافورة من الرخام تحمل رمز عربة رمسيس وهو يقاتل الهكسوس (شعار القوات المسلحة)، وفي عام 1996 طورت الساحة بإقامة ستارة على الجانب الأيمن للنصب تحوى إحدى جنباتها الآية الكريمة والتى تشير إلى خلود الشهداء "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" صدق الله العظيم، وإقامة لوحة من الفسيفساء والتي تمثل اقتحام الجندي المصري لأعتى الموانع "خط بارليف" ورفع العلم المصري في منتصف يوم 6 أكتوبر 1973 (عن موقع www.mmc.gov.eg).
وإذا مررت من أمامه ترى الرخام والجرانيت الأسود المصنوع منه الأرضيات في ديكور رائع، والحدود الموضوعة حوله فهي منطقة محرمة وممنوع الدخول إليها وأربعة عساكر في الزي العسكري الأحمر إثنان من الداخل وإثنان من الخارج يتحركان في حركة تبادلية منظمة وبخطوة عسكرية دقيقة جداً وعلى أكتافهم السلاح وعلى وجوههم هيبة وجدية وكأنهم في محراب مقدس.
من هنا يأتي هذا العنوان الغريب: "أمواتاً يُكرّمون وأحياءَ يُهانون" فنحن شعب فرعوني نقدس ونكرّم الأموات جداً –فقط بعد ما يصبحوا أمواتاً- فنصنع لهم القبور الفاخرة مثل الأهرامات، ونصنع لهم المقامات والموالد السنوية كإحياء لذكرى هذا الشهيد أو هذا القديس أو هذا الولي الذي كان من أولياء الله الصالحين.
لستُ ضد إكرام الأموات، وأن نذكر محاسن موتانا، وأن إكرام الميت دفنه وكلما زاد غناه زاد القبر فخامة من مباني ورخام، وعمل الجنازة الفاخرة وما يسمى بـ "التالت" والأربعين والذكرى السنوية الأولى والثانية...إلخ حتى آخر العمر، وزيارة القبور والترحم والزهور..إلخ من مظاهر الإكرام والتذكر لهذا المتوفى.
لكن وهم ما زالوا أحياء نجد هذا الجندي –المعلوم– وهذا الشخص الحي يُهان أشد إهانة من كل من هم أعلى منه حتى لو كان "عرّيف" ويأتي السؤال، لماذا لا يُكرّم الأحياء؟ هل لا بد أن يصيروا أمواتاً حتى يكرّموا؟؟
ما هي مظاهر إهانة الأحياء؟
من أهم مظاهر إهانة الأحياء طوابير العيش، والتلاعب من أصحاب المخابز بتجارة الدقيق، مما يؤثر على ووصل رغيف الخبز المدعم للمستهلك العادي بطريقة سهلة وآدمية –أذكر هنا ما عرضه برنامج "البيت بيتك" في تسجيل فيديو صوره أحد المواطنين عن عملية تهريب الخبز المدعم من خلف أحد مراكز التوزيع- والناس وقوفاً في الطابور- حيث تم تهريب عدد ثلاثة "أشولة" مملوءة بالخبز لسيدة واحده ترتدي الحجاب، بالتعاون مع أحد العاملين في المخبز.. أين يذهب هذا الخبز؟ هل للمطاعم؟ أم لتربية الحيوانات والطيور؟ أم يُعاد بيعه في أماكن أخرى بأسعار سياحية؟؟ الله أعلم!!
البطالة، ظاهرة تهين جدا الأحياء وخاصة الرجل في مجتمعنا الشرقي، لأنه مسئول عن نفسه أولاً، ثم عن أهلة ثانياً سواء كان هؤلاء الأهل الوالدين أم الزوجة أم الأولاد، والمشكلة الآن ليست فقط في عدم وجود فرص عمل جديدة وما يترتب عليها من عدم تعيين الشباب الجدد، لكن الفرص الموجودة نفسها تقل ويتم "تسريح" الموظفين والعمال القدامى سواء لسبب "الخصخصة" أو بسبب "الأزمة الاقتصادية العالمية"، ولا يهين ولا يزل الإنسان في أنه لا يجد مصدراً للدخل يصرف به على نفسه وعلى بيته.
الروتين، أحد مظاهر إهانة الأحياء فلكي تتعامل مع أية مصلحة حكومية يلزمك أن تسير في سلسلة من "الكعب الداير" وتنتقل من مبنى لمبنى ومن منطقة لأخرى لتجمع أكبر قدر من التوقعيات والأختام ويصبح لديك ملف ورقي يحتوى على العديد من الإعتمادات لكي تحصل في النهاية على الخدمة التي تريدها وبعد وقت من الزمان بالطبع، فعلى سبيل المثال الطالب في أي مدرسة –الفقير– لكي يحصل على مساعدة مالية لتخفيض جزء من مصروفاته المدرسية عليه أن يقوم بعمل "بحث اجتماعي" وإجراءات هذا البحث طويلة فمطلوب منه: صورة بطاقة الوالد، مفردات مرتب حديثة للوالد والوالدة إن كانت تعمل، إثبات قيد لكل أخ من إخوته بالمدارس، خطاب حيازة زراعية لسكان الريف، شهادات صحية تثبت مرض الوالد، ثم يجلس الطالب مع الباحث الإجتماعي أو ولي أمره لكي يبحث الحالة ويقرر بعدها استحقاقه أو عدم استحقاقه للمساعدة –بعد كل هذا العناء– وبعد أن يكون قد صرف نصف المساعدة التي سيأخذها على المواصلات لجمع هذه المستندات اللازمة لعمل البحث.!!
هذه الصور المعروضة سابقاً جزء من كل فإنه يعوزنا الوقت إن تحدثنا عن كل ما يتعرض إليه المواطن العادي من إهانات سواء كان ذلك في المواصلات، أو الصحة، أو التعليم، أو الإسكان، وغيره من الهيئات والنظم التي يتعامل معها المواطن يومياً بصورة تهين كرامته وتهين إنسانيته.
ما هو الحل؟ لا بد بعد أن رأينا الصورة معتمة لا بد وأن نضيء شمعة، وهي ما هو الحل؟ وما هو دورنا؟
شعارنا "ابدأ بنفسك" دورك ودوري هو أن لا نكون شركاء في إهانة الأحياء فإذا كنت صاحب سلطة كمدير، أو صاحب قرار، أو صاحب مصنع أو شركة فترفق بمن هم تحت يديك من عمال وموظفين، وعاملهم بكرامه فهم بشراً وليسوا عبيداً لك.
وإذا كنت موظف حكومي فلا تتفنن في تعذيب الجمهور وأرفض عبارة "فوت علينا بكره يا سيد" وسهّل بقدر المتاح لك من سلطات الإجراءات على طالب الخدمة.
الأمانة، الأمانة مفتاح لتغيير هذا الشكل القاتم، وإذا استعمل كل منا هذا المفتاح الهام في عمله ستقل كثيراً من مظاهر هذه الإهانة فإذا كان صاحب المخبر أميناً وموزع الخبز أيضاً أميناً ستختفي أو ستقل حدة طوابير العيش، وإذا كان الموظف أميناً ويرفض الرشوة التي تعوج القضاء سيسهّل الكثير على الناس في الإجراءات، وهكذا رجل المرور في الشارع إذا كان أميناً ولا يمد يده لربح غير مشروع، ستقلل من استغلال السائقين للركاب.
نعم فهي دائرة ندور فيها جميعاً فنحصد ثمارها جميعاً، فدائرة الشر لا بد وأن تحصد شر فالفساد لن ينتج إلا فساداً أكبر، وأيضاً دائرة الخير تنتج خيراً، ازرع أمانه ستحصد كرامة ووفرة وغنى، ليس شرط أن يكون غنى مادي لكن غنى النفس وترفعها فوق الرذيلة، فما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً، فكن أميناً إلى الموت فستنال المجزاة هنا في الدنيا وهناك في الآخرة.
التغيير لن يأتي من رأس الهرم بل من القاعدة الشعبية وهي أنا وأنت عزيزي القارئ، فابدأ بنفسك وأكرم الأحياء قبل أن يصيروا أمواتاً فتتغير الصورة فتصير أمواتاً يُكرّمون وأحياء أيضاً يُكرّمون. |