بقلم: محمود كرم
كانت ولا تزال صناعة المعرفة بمختلف حقولها وتفريعاتها وأنماطها وتشكيلاتها طريقة الإنسان الذاتية في ميادين اختراع الحياة النابضة بدفق التطور والعطاء والفن والسعادة والجمال، ولذلك كان الإنسان هو ذلك الكائن الذي يبرهن بالمعرفة وصناعتها على وجوده وكينونته وماهيته وتأثيره، وعلى تفلسفاته وأدبياته وإبداعاته، بل وعلى تفرده وجنوحه ونزوعه أيضًا، وما كان من فلاسفة التنوير إلا أن أطلقوا على هذا الكائن (إنسان المعرفة) من حيث إنه قد أصبحَ شغوفًا بالمعرفة ومتلذذًا بصناعة فنونها وحقولها ومساحاتها الفسيحة.
وقد ذهبَ الفيلسوف نيتشه إلى تعريف هذا الإنسان بالكائن (المقوّم) وفقًا لتعبيره -أي أنه هو الذي يمنح الأشياء المعاني ويقومها ويزنها- ويهب الحياة حضوره المعرفي الإبداعي والخلاق والمتجدد.
هذا الإنسان الذي أخذَ يعي وجوده وكينونته وذاته عبر تحولات وتوثبات فكرية ومعرفية وتاريخية، أصبحَ في مقابل ذلك يعي أن صناعة المعرفيات الإنسانية من مهماته العقلية والذهنية بدءًا وأصلاً في خلق الوقائع والتصورات والمفاهيم والأساليب والمستويات. ولذلك كان أن اتسمت الذات الإنسانية بالذات المفكرة والذات الناطقة والذات المسئولة والذات الواعية والذات الإرادية وما أنتجته الحداثة الفكرية في عصر النهضة والتنوير في أوروبا من فتوحات معرفية خلاقة في حقول الفلسفة والاجتماع والعلم والأدب والفن وغيرها، انطلقت في الأصل من وعي الإنسان العميق بوجوده وكينونته وإرادته عبر التأسيس الفكري والثقافي والواقعي المكثف لقيم ومفاهيم الحرية والعقلانية والذاتية.
يتضح من ذلك أن المعرفة التي أسسَ لها هذا الإنسان الشغوف بصناعتها إدراكًا خلاقًا وحرًا لوجوده الإرادي والعقلاني والذاتي، هي المعرفة التي تبدأ بالسؤال ولا تنتهي عند ذلك، بل تستمر بالسؤال مجددًا وتبقى هكذا تتخلق تجددًا مستمرًا في منابت السؤال (أي معرفةٍ لا تؤدي إلى أسئلة تموت) كما تقول الشاعرة البولندية فيسوافا، إنها المعرفة التي أخذت تستوعب نزوع الإنسان العقلي الحر نحو استثارة السؤال تأكيدًا على طريقته الذاتية الموضوعية في إشباع حاجته المستمرة للسؤال، فالسؤال في أبجديات الإنسان المعرفي انعكاس جلي لطريقة ذاته المفكرة في البرهنة على تجربتها المعرفية في مجال الخلق والتفكير والاستنتاج والتطور..
وعليهِ وجبَ أن نقول ونتساءل: مَن يقدر على طرح السؤال وتوليد الأسئلة تلو الأسئلة؟ إنه ذلك الإنسان اللا يقيني، بمعنى ذلك الكائن القادر على توليد السؤال وطرحه واستثارته معرفيًا لأنه من غير أن يبقى متساءلاً يجد نفسه وقد تلاشى في فراغات الحطام والعدم أو يجد نفسه سادرًا في خدَر العبودية والاستلاب.
إنه لا يقدر إلا أن يبقى في مدارات السؤال حاضرًا ومشككًا وقاهرًا ومفكرًا وناقدًا ومجربًا ومستنتجًا ومخطئًا ومتعلمًا، بل وجاهلاً أيضًا (علينا بشكل دائم أن نكون مستعدين لاكتشاف إننا قد أخطأنا) كما يقول الفيلسوف كارل بوبر، فهذا الإنسان المعرفي أصبحَ يعي أن اليقيني والحتمي والمطلق والنهائي اغتيال مبرمج للمعرفة الإنسانية، ولذلك كان عليه أن يتخلق معرفيًا في هجير الشك والقلق والنقد والتفكير.
ومن هنا يكون السؤال حضورًا فعليًا وتفاعليًا في حضرة المعرفة، إنه بمعنى أدق يستوجب تفعيل حضوره الإنطولوجي الذي يتعالق فكريًا مع رحابة اللا يقين واحتمالاته وتفسيراته ومنطوقاته، ويتعالق انفتاحًا وتصالحًا وتوافقًا مع ذاته المفكرة والمتساءلة والناقدة.
وبما إن الإنسان المعرفي معنيٌ أصلاً بصناعة الحياة التواقة إلى الخلق والتوثب والتجدد والفعل الإبداعي، أصبحت المعرفة لديه في تمثلاتها الواقعية وفي تعالقاتها المكانية والزمانية تعني التأسيس الفكري لعقلية الانفتاح على الحياة بشتى ألوانها وتنويعاتها وتشعباتها، فهي المعرفة التي تتقصد صناعة الحياة الحرة الدافعة إلى التنوع والاختلاف لأنها معرفة مفعمة بالحيوية تنتفض على الاقتعاد والجمود، ولأنها أيضًا معرفة ناطقة، تستنطق المعاني والأعماق وما وراء الأشياء وليست خرساء تتلقى حقنات التلقين الديني والوراثي باستسلام وبلادة، ولأنها كذلك معرفة محفزة تتوثب فكرياً في حلبة السؤال والنقد والتفكر ترفض الخمول والتكلس والارتداد، ولأنها في الجوهر معرفة ترتقي إلى مدارج الاكتشاف بالمجازفة والإقدام والجرأة (وحدهم الذين يقومون بالمجازفة يمكن أن يكتشفوا إلى أي مدى يمكنهم البلوغ) كما يقول الشاعر الانجليزي "تي إس إليوت".
وهي قبل ذلك في الأصل معرفة تنويرية تحمي الإنسان من الجهل بذاته، أي تجعله في عمق ذاته متوازنًا معها ومتيقنًا من إنها هي التي تفكر وهي التي تتعالق موضوعيًا وفكريًا مع مسارات الحياة، وليست نهبًا للنزعة الجماعية أو الجمعية.
إنها الذات المقتنعة إدراكًا حرًا بقدرتها التفكيرية والتساؤلية، بها يواجه الإنسان المعرفي الحقائق وعوالم الأشياء، رافضًا ثقافة الاستلاب والوصاية والاستعباد.
ونستطيع حتى على سبيل التدليل أن نرى صورة الإنسان المعرفي وقد تجسّدت في الفلاسفة الإنسانيين منذ فلاسفة زمن الإغريق، ومن ثمَّ مرورًا بديكارت وكانط وهيغل ونيتشه وهايدغر وغيرهم، لقد استطاع كل واحد منهم بفلسفاته وفتوحاته المعرفية الخلاقة أن يخلق فضاءه المعرفي الفلسفي الخاص برؤيته المعرفية إلى الحياة والإنسان والوجود والأشياء، والذي اندرجَ في تصور ومفهوم ذاتي خاص بكل واحد منهم.
ولكنه قبلاً وفي الأصل قد تأسسَ بدءًا هذا الفضاء على معرفة كل واحد من هؤلاء بذاته المفكرة والمثابرة، والتيقن من قدرتها على التحرك بعيدًا في مجاهل الحياة والاستعداد تاليًا لمواجهتها وخوض غمارها.
من ذلك يتبيّن لنا أن الإنسان المعرفي هو ذلك الكائن الذي يبني عالمه المعرفي استحضارًا فعليًا ودائمًا لتجربته الذاتية التفاعلية في اشتباكاتها الفكرية الأولى مع تموجات الشك والسؤال والقلق بعد أن يكون قد استوعبَ تشبعًا بوعي جمالي مختلف المعارف الإنسانية السابقة.
إنه حينها يصبح مفعمًا بالاستعداد الذاتي نحو بناء عالمه المعرفي، انطلاقًا من ذاته في تجربتها وعوالمها الخاصة، يستلهم منها طاقة الوعي أساسًا جديدًا ومتجددًا للمعرفة الخلاقة، مؤسسًا بها كيانه المعرفي سبيلاً يعتمد عليه في فهم واجتراح طرائق التفاعل المعرفي مع ما يريد ومع ما يفكر فيه، ومع لابد من التفكير فيه، ومع ما يمر في أعماقه، ومع ما يوجد وما لا يوجد من حوله، إنه بذلك يحقق كينونته العقلية الساعية دوماً إلى امتلاك إرادة المعرفة أساسًا يتجذر في ذاته، معززًا بها فهمه لأهمية أن يكون إنسانًا معرفيًا ينهض بمهامه التنويرية الحرة في الحياة.
كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|