بقلم: د يحيى الوكيل
في خضم معركة أوسترليتز بين الجيشين النمساوي والروسي من جهة والجيش الفرنسي بقيادة نابليون من جهة، جُرح الجنرال كوتوزوف قائد الجيش الروسي في وجهه. وإذ اندفع مساعدوه ليداووا جرحه صدهم بعبارة لا أنساها أبدًا قائلاً "دعوني؛ جرحى ليس هنا –وأشار إلى وجهه– بل هناك -وأشار إلى ثغرة في صفوف القوات المتحالفة تتدفق منها القوات الفرنسية ونجم عنها خسارة المعركة وفوز نابليون بأعظم انتصاراته قاطبة-". ويرى المؤرخون والمحللون العسكريون أنه لو كانت تلك الثغرة قد عولجت لضمن التفوق العددي لقطعات جيوش التحالف هزيمة نابليون ولتغير تاريخ أوروبا والعالم.
كانت رؤية كوتوزوف، وهو الذي أنقذ روسيا من غزو نابليون لها بعد تلك المعركة بسبع سنين، سليمة في ترتيبه لأولوياته حتى أن جارت على سلامة شخصه –وليت القائمون على حال مصرنا الغالية لهم ولو بعض من بصيرته-.
لا ننفك نقرأ عن جهودنا لحل المشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية، والمشكلة الفلسطينية - الفلسطينية وننسى أولويات أمننا القومي ولا أهم من محوره الجنوبي حيث منابع شريان حياة هذا البلد: نهر النيل، ولا نرى فيه أي جهد دبلوماسي أو غيره يُذكر.
قرأنا في الأسابيع الماضية –خاصة تلك التي سبقت الفيضان- الكثير والكثير عن مشكلات لنا مع دول حوض نهر النيل تتعلق بأنصبة كل دولة من مياهه وعن مشاريع مائية وسدودًا تُبنى على روافده التي يستقي منها ماءه، ولم نعرف أن تلك المشكلات قد تم حلها بشكل يضمن لنا حقوقنا بل بدا لنا وكأن تلك الدول قد اتخذت منا موقفًا عدائيًا يؤثر سلبًا على نصيبنا من المياة وكانوا قبل ذلك نعم الأصدقاء.
وزاد من حساسية الموقف إعلان السيد وزير الري والموارد المائية أن فيضان هذا العام قد جاء أقل من المتوسط، ولم يوضح لنا سيادته إن كان ذلك بسبب قلة الأمطار على هضبة الحبشة –وهي مصدر ماء النيل– أو أن أسوأ كوابيسنا قد تحققت ومُنع عنا هذا الماء.
هذه واحدة.
ولا زلنا مع الجنوب الساخن –ليس فقط لقربه من خط الاستواء– ولكن لما يجرى فيه وأين؟ فيما كان دومًا جزء من مصر عبر التاريخ والآن وبعد أن مُزق عنها بعضه يستمر التمزيق ليتهلهل ما كان يومًا الامتداد الاستراتيجى لمصر: السودان.
في خلال شهور قليلة سيتم الاستفتاء على الانفصال الكامل لجنوب السودان عن شماله، والمؤشرات الحالية ترجح ان تكون النتيجة في صالح الانفصال، خلافًا لما يقوم به العالم المتقدم من اندماج الكيانات لتؤازر وحداتها بعضها بعضًا في وجه أعاصير التنافس الاقتصادي والوحوش التى أطلقتها العولمة من عقالها.
أنا لن أجادل في حق أي كيان ثقافي ومجتمعي متجانس أن يقرر مصيره بنفسه، ولكنني أهتم به حين يرتبط مصير وطني به.
هناك إحساس لا يختلف عليه كل المتابعين للشأن السوداني أن الدولة الوليدة ستكون ذات اتجاه معاد لمصر لأسباب كثيرة أعُد بعضها على سبيل المثال في الدعم الذى أبدته في أحيان وأزمنة الحكومة المصرية –ومنظمات دينية رسمية أيضًا- لحكومة الخرطوم وخاصة في مجال تطبيق الشريعة الإسلامية في جنوب السودان وهو أكثر ما نقمه أهل الجنوب على أهل الشمال، وأيضًا التغلغل الإسرائيلى ممثلاً في السلاح والمستشارين العسكريين والذي مكن قوات الجنوب من التفوق على القوات النظامية السودانية وكرس انفصال الجنوب؛ وقد طبقت اسرائيل ببساطة مبدأ أن تجعل من أصدقائها أعداء لعدوها –وهو المنصب الذي لا زلنا نحرص عليه على المستويين الرسمي والشعبي– وغذت كراهية الجنوبيين لمصر.
وسؤالى هنا، إن كانت روافد النيل وأصوله تمر في أراضي تلك الدولة –إن أُنشأت، وأظنها ستفعل– فما تظنونهم فاعلون بنا إن لم ننزع فتائل العداوة؟ ولا تعدونه فتيلاً واحدًا لأنه ليس كذلك.
ولا زلنا نتجه جنوبا، لتمتزج الحرارة بالرطوبة العالية عند شواطئ المحيط الهندي والذي تطل عليه الصومال: بلاد بُنت التي ضمتها عمليًا للامبراطورية المصرية ابنة بلدي العظيمة الملكة حتشبسوت، ليس بقوة السلاح وإهراق الدم بل بأواصر الصداقة والعلاقات التجارية.
أرأيتم عظمة بنات بلدي.
للأسف ضاع ما حققته وأكده في العصور الحديثة الخديوي اسماعيل –والذى مد حدود مصر إلى هناك قبل أن تتفتت على يد الاستعمار– على يد ولاة الأمور الذين أضاعوا هيبتنا أمام بضعة قراصنة يتسلحون بسلاح خفيف ويركبون قوارب خفيفة يتنزه بمثلها أثرياء مصر من ارستقراطيو الانفتاح فقطعوا الطريق على السفن المتخذة قناة السويس –أحد أهم مصادر الدخل القومي– طريقًا ومسارًا لها، فكانوا كالجلطة التي كادت تسد شريان التجارة العالمية الأهم لتصيب حركة التبادل التجاري بالشلل.
أين الأسطول المصري والذي كان دومًا منبع فخر لنا منذ تعي الذاكرة من انتصاره على أسطول الهكسوس والمساهمة في النصر الكامل عليهم إلى استطاعته إغلاق مضيق باب المندب في عمليات أكتوبر 1973؟
كان ذلك الأسطول مشغولاً بالعروض الفنية يسلي بها ولاة الأمور، بينما أولادنا يتلظون بنار الأسر ولا يجدون إلا رجلاً مصريًا ذهب بشخصه يدفع عن مراكبه كعبد المطلب يدفع عن أهله وللبيت رب يحميه، فكان صيادوه رجالاً أبابيل جعلوا القراصنة كعصف مأكول وجلبوا منهم الأسرى، لتطلقهم لاحقًا حكومتنا الرحيمة وكنا نتوقع لهم عقاب القراصنة: الشنق من صاري مدمرة مصرية تتهادى بجيفهم أمام السواحل الصومالية ليكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه أن يؤذي مصر في رزقها أو في أولادها.
لله درك يا حسن خليل، وكل رجل كان على تلك المركبتين.
أرأيتم عظمة أولاد بلدي.
كفانا همّا من الشرق، ودعوا الفلسطينيين يسوون خلافاتهم بأنفسهم، فتدخلاتنا لا تكسبنا إلا أعداء منهم، واتفقوا على كلمة سواء في الخلافات الفلسطينية الإسرائيلية ثم دعوهم أيضا يسوون خلافاتهم بأنفسهم، ألا تفعل السعودية ذلك؟
لنوجه أنظارنا –ولو لزم الأمر قوانا– جنوبًا، ولنتذكر صلاة المصري الفرعوني الذي كان يبادر لدى لقاء ربه بالقسم أنه لم يلوث ماء النهر، ولنقسم أننا لن نقطع أو نتسبب في قطع ماء النهر وجفافه.
أما عن تلويثه، فلذلك مقال آخر. |