بقلم: جورج شكري
جيزة نصارى
يقول عبد الرحمن الأبنودي: لقد ظللت معظم سنوات الطفولة أتعجب من هذا الدعاء الذي لا أفهمه.. في كل مناسبة تدخل المرأة الجارة أو القريبة في يدها رموز المجاملة.. حناء, سكر, شاي, صابون, تطلق زغرودتها في وجه العروس على أضواء اللمبات الخافتة المدخنة وتعقب زغرودتها بالدعاء الخالد..
(بالعمارة والتمارة وجيزة النصارى)
يا رب ماذا يقلن..؟!، كيف أنا منهن وربيت على حجورهن ولغتى لغتهن ولا أعلم ولا أفهم ماذا يقلن رغم تكرار الدعاء أمام أذني عشرات المرات..؟!
(بالعمارة والتمارة وجيزة النصارى)
كيف اكتسبت سجعها وموسيقاها التي ينطقن بها الكلمات..؟!، ولماذا كل هذا الدفء الذي يعلن به شعارهن الخالد..؟!، وأخيراً لماذا أسمعه من النساء فقط ولم يحدث أن سمعته من رجل واحد..؟!
يوماً سألت فاطنة قنديل (والدته) عن ما هية هذه العمارة ومعنى كلمة التمارة وما دخل النصارى في كل هذا التغريب..؟!، تعجبت الأم التي كانت تعتبرني ذكياً وسألت كيف لم أفهم الكلمات البسيطة.
"كيف يا ولدي مش خابر العمارة والتمارة وجيزة النصارى..؟!"
بالفعل كانت أول كلمات تخرج من شفة (فاطمة قنديل) منذ أن ولدت ولا أفهمها، وهكذا بدأت تشرح..
"..يا ولدي طبعاً ده جواز واللي يجوّز بنته بيبقى خايف واللي زينا لازم يطمنه علشان كدة بنقوله الكلمات دول عشان يتطمنوا وفي نفس الوقت دعاء علشان ربنا يوفقهم ويثبت قلوبهم على الود والعشرة والجوازة تدوم.."
أقول لها "كل ده جميل.. إيه بقى العمارة والتمارة والحمارة والنجارة وكل اللي إنتوا بتقولوه ده..؟!"
تجيب فاطنة قنديل "اسمع يابو لسان طويل.. دلوك الجوازة الواحدة مننا تدعي فيها بإيه؟، بإنها تعيش وتدوم والناس تخلف عيال والرجل ومرته يحبوا بعض ويعيشوا على الحلوة والمرة لحد ما يفتكرهم الحي الذي لا ينام.. مش كدة واللا غير كدة..؟!"
أجيبها في انتظار الإجابة "كدة"
تقول "نمسكهم واحدة واحدة بالترتيب..."
"بالعمارة..."
يعنى عليهم وعلى الله (عمار الديارة) يعني يعيشوا ويعمروا البيت..
بإيه؟ طبعاً بالخِلفة الصالحة لأن الخِلفة وحِس العيال في البيت هي اللي تعمر الدار.. البيت إللى من غير خلفة فقري وزي القبر ساكت لا ضحكة ولا بكى ولا يامّا ولا يابا.. أدي العمارة.
أسألها "طب والتمارة...؟!"
تقول "التمارة أن الواحدة اللي خدها جوزها عشان يعولها ويأكلها ويشربها يتمر فيها العيش والمعروف"، أهل بحرى يكتبونها بالطاء فيمحون ما بها من دلالة والكلمة أصلها الفصيح "يثمر".. أي أن المرأه التي تشبه الأرض.. إذا كانت صالحة للزراعة فإن المعروف الذي يزرعه رجلها فيها يثمر معروفاً وحباً وحناناً, تقاسمه الحزن كما تقاسمه الفرح وتمرض لمرضه وتشقى لشقائه "ساعتها يكون المرأه "تمر" فيها العيش والمعروف اتقابل بالمعروف.. أهي دي ياولدي التمارة"
أسألها "طب و(جيزة النصارى) وإيه إللي دخل النصارى في الحكاية وللا هية عشان السجع تمارة وعمارة ونصارى وكدة يعني؟!!.."
تغضب فاطنة قنديل من السخرية المختبئة وتقول:
"أهي إللي بتضحك عليها دي أهم حاجة في التلاتة"
أستمر في استفزازها "كيف يعني"
"إنها دعاء لله علشان مايكسرش المحبة وتدوم الجوازة.. ده دعاء بعدم الطلاق.. لأن النصارى يا ولدي ما بيطلقوش.. إللي خدها هي إللي خدها.. هية إللي هتتشعلق في رقبته طول العمر.. زعلوا من بعض.. أتقندلوا.. راحو.. جُم.. آخرتها لبعض عشان معندهمش طلاق.. فإحنا بنتمنى للواد والبت إللي هيتجوزوا إن جوازهم يبقى (جيزة نصارى) يعنى جواز دايم علطول ما يتكسرش ولا فيش حاجة تعطله...
ومادام عمرت الدار وخلفت عيال، ومادام تمر فيها المعروف وبقت تخاف على حاجة جوزها وماله وعياله لازم الجوازة هتدوم زي
جوازات النصارى.."
عشان كدة ما فيش غيرها في حنكنا لما بندخل على أي فرح على طول نهلل...
"بالعمارة والتمارة وجيزة النصارى"
فهمت...؟!
بهذه الكلمة الإستفهامية (فهمت...؟!) أنهت (فاطمة قنديل) شرحها الموجز البليغ للدعاء الأبنودي الخالد (بالعمارة والتمارة وجيزة النصارى) ولا أظن في الحقيقة أن ثمة من هو قادر على أن يصيغ الكلمات في شرح هذا المثل بصورة أروع من تلك التي أتت بها فاطمة قنديل، فقد بلغت القمة في البساطة والبلاغة العامية -إن كان للعامية بلاغة–.
والسؤال الذي يُلح علينا هنا ويشد أكمامنا وذيل جلبابنا بل ويتطاول ويشد ياقتنا بأسلوب المُخبرين الشهير..
هل توقف الخيال الشعبي عبر إنتاجه الإبداعي عند حد الدعاء الأبنودي الخالد (بالعمارة والتمارة وجيزة النصارى)..؟!
لا لم يفعل بالطبع ونظن أنه ما كان ليفعل...
لقد امتد –متأثراً بجيزة النصارى– ليسطر لنا عدد لا بأس به من الأدعية والأمثال الشعبية والكنايات العامية البلاغية بل وتعدى الأمر حدود ذلك كله لنجد أن "جيزة النصارى" كان لها مكان في فن الأحاجي والألغاز الشعبية وهذا ما سوف نستعرضه ههنا ولو في عجاله قد ترون أنها غير وافية:
1- جوازة نصرانية لا فراق إلا بالخناق.
لا يقصد بـ (الخناق) هنا بالطبع (العِراك) في لغوها المُفصح ولا يقصد بها كذلك (الخنق بكلتا اليدين) كأحد وسائل القتل المُصاخبة لعبارة (موتي يا خاينة) لا، ولا يقصد بها أيضاً التضييق والتطهيق إلى حد (الإختناق)
الخناق هنا -وكما أورد العلامة المحقق (أحمد تيمور باشا) في كتابه (الأمثال الشعبية -مشروحة ومرتبة حسب الحرف الأول مع كشاف موضوعي-)- (بضم أوله وتشديد ثانيه) يريدون به الموت...
وجوازة مُحرفة عن الزواج بالقلب..
والمثل –بحسب تفسير الرجل- يُضرب للشيء يلازم الشيء ولا ينفك عنه، وشبهوا هذه الحالة بالزواج عند النصارى لأنه لا طلاق فيه
ومن الكنايات قولهم (جوازة نصارى).
وقد ذُكر نفس المثل في عدد كبير من موسوعات الأمثال الشعبية اللبنانية بعد ترجمة كلمة (جوازة) لبنانياً إلى (جازة).
(جازة نصرانية لا فراق إلا بالخناق)
Christian Marriage: No Separation except By shaking too Difficult For a Christian to get a divorce in Lebanon
2- زيجة نصارى اللهم يا كافي لا تاخد عليها ولا تطلقها.
دعاء شعبي آخر ينتشر في عدد لا بأس به من الدول العربية والجديد فيه أن يعطي لتمني (جيزة النصارى) بُعداً جديداً إذ لا يقتصره هنا فقط على (لا تطلقها) وإنما كذلك (لا تاخد عليها) أي لا تتزوج بأخرى، وهو ما يعطى مُؤشراً لتمني جيزة النصارى بكافة تفاصيلها التي يلخصها المُعتقد المسيحي في عبارة (شريعة الزوجة الواحدة).
3- (عورتن؟.... بلشتن!).
في العراق تعامل الوجدان الشعبي العراقي مع الزواج المسيحي بصورة قد تبدو مختلفة كثيراً إذ تم تجسيده شعبياً –عبر واحد من أشهر أمثال نصارى بغداد– على أنه (بلشة)
والـ (بلشة) –لمن لا يعرف ولغير العراقيين من قرائنا الأعزاء– تعني ورطة.
يقول المثل (عورتن؟.... بلشتن!)
وضوح المثل هنا قد يُغني كثيراً عن شرحه بالطبع..!!، لكننا سنشرحه لمن تعثر عليه الفهم..!!
يُضرب المثل –وكما يقول الدكتور (محمد صادق زلزلة).. في كتابه الشيق طويل الإسم والمحتوى "قصص الأمثال العامية (كتاب أمثال وقصص ووعظات وعبر وفكاهة وأدب)..."- للرجل يتورط في أمر يكرهه فلا يجد له منه مخرجاً ولا يرى منه خلاصاً.... ً
وعورتن: أي عوراء بلهجة بعض نصارى بغداد (فاقدة لعذرويتها)....
وبلشتن: أي تورطت ولا خلاص لك من (بلشة) وهي لفظة عامية أي: ورطة...
وأصله:
أن رجلاً نصرانياً أراد أن يتزوج وكان ينتمى إلى بعض فرق النصارى التي تُحرم الطلاق إلا في حالات خاصة وبموافقة جهات كهنوتية عليا فراح يبحث عن زوجة صالحة يعيش معها بسعادة وهناء، ثم أنه دُل على فتاة من عائلة طيبة فخطبها من أهلها ولكنه لم يرها ولم يضمه وإياها مجلس، ثم أعدت معدات العرس وزُفت العروس إلى عريسها وفي ليلة الدخلة دخل الرجل على عروسه فوجدها عوراء! فأصابه الذهول والدهش وشعر بخيبة أمل عظيمة آلمته وهزت كيانه فصاح ثائراً غاضباً: (عورتن؟): أي هل إنتي عوراء؟
فأجابته على الفور (بلشتن!) أي أنك تورطت في الأمر وليس لك مفر منه، فشعر الرجل بحرج موقفه فسلّم أمره إلى الله تعالى ورضى بما قسمه الله له ثم علم الناس بذلك الأمر فقالوا فيه.
(عورتن؟.... بلشتن!)
ورثوا لحال ذلك الرجل المسكين وأسفوا لما حصل له وذهب ذلك القول مثلاً..
ولا يخفى على أحد هنا –أو يخفي– أن ما مر به الرجل العراقي لم يكن (بلشة) إلى هذا الحد، لا أدّعي بالطبع إننى اطلعت على قوانين الأحوال الشخصية في العراق، لكن في عرف قوانين الأحوال الشخصية المصرية –على الأقل– تصنف هذه على أنها حالة بطلان زواج.
4- زيجة نصارى... شبوط بحلقك مربوط.
مثل شعبي آخر يحمل ما بين طياته وصف بلاغي غريب، إذ تشبه الجماعة الشعبية هنا زيجة النصارى بالشبوط المربوط بالحلق، ولقد بحثت طويلاً في موسوعات وقواميس الأمثال الشعبية العربية فلم أجد لهذا الشبوط اللي بحلقك مربوط أي وجوط (الكاتب يستخف دمه.. المقصود بالطبع وجود)..
لكني وبسؤال بعض العالمين ببواطن الأمور أفادوني –والعهدة على الذي أفاد والله أعلم– أن الشبوط دون سواه من الأسماك يظل مُرتبطاً وممسكاً بحلق صنارة الصيد ولا يتركه بسهولة وكأنه يتشبث بالحياة ذاتها، لذا صار مضرب المثل في قوة الإرتباط شأنه شأن جيزة النصارى، وحين فكرت قليلاً في كلمة شبوط هذه تناهى إلى ذهني أن الكلمة (شبطة) أو الفعل (شبط) معناه تمسك بشيء بشدة مثلما نقول إن (الواد ده شبطة) كلما رأى شيء تمسك به وأراد شراءه، وهو ما يعني أن زواج النصارى (شبطة).
5- الله يدباس نياقنا.. جيزة نصارى ماكو فكّة.
(ماكو) بحسب اللهجة العراقية والكويتية تعني أنه (لا يوجد) وهي عكس (اكو) أي (يوجد) أما (الفكّة) فلا يقصد منها هنا فك النقود –لا سمح الله- وإنما تعني الفكاك أو الإنفصال.
و (جيزة نصارى ماكو فكة) -شرواة واحدة– تعني أن زواج النصارى لا يوجد منه فكاك.
أما عن (الله يدباس نياقنا...) فلا أظن أنه تعنينا كثيراً لكنها تعني أن ثمة (تدبيسة) في الأمر -والكويتين في ذلك أعلم-.
6- البعرس بت عمو بقولو ليه (زواج نصارى ما فيه بصارا).
عبارة تهنئة سودانية رقيقة لرجل تزوج من إبنه عمه..
والبعرس –بحسب تفسير أحد أصدقائي السودانيين للمثل– هو (إللي بيتجوز) أو (المُقبل على الزواج) أما (البصارا) -وبحسب تفسير ذات الشخص– هى الحيرة.
والمثل –بعد ترجمة الكلمات السودانية عسيرة الفهم- يعني أن المتزوج إبنه عمه لا يجب أن يشعر بحيرة أو قلق شأنه في ذلك شأن النصارى في إرتباطهم الزيجي الأبدي.
وهى مشابهة نستطيع أن نصفها بالحصرية لأشقائنا السودانيين، ويعنينا -نحو فهم أكبر لهذه المشابهة– أن نذكر أن زواج الأقارب –وعلى رأس قائمته الزواج من إبنه العم– من العادات المتأصلة عند النوبيين سكان السودان الشمالى –كما يؤكد (ج. كروفوت) وهو إداري بريطاني تخصص في دراسة العادات والتقاليد السودانية– وقد كتب يقول:
"يتوقع أن تتزوج الفتاة من ابن عمها مهما كان التفاوت في الثروة أو السن بينهما وربما تُضرب الفتاة حتى توافق، كما أن الصبي الذي يرفض ابنة عمه ربما يُعامل بالطريقة ذاتها – كما تقضي التقاليد أن الأرملة التي يتوفى زوجها تتزوج من قريبها المباشر حتى ولو كان طفلاً، أو عليها أن تنتظره إلى أن يكبر وإلا فأنها ستخسر كل حقوقها في ممتلكات زوجها وحتى في الأطفال".
وفي ذات الصدد تُشير (صوفي زنكوفسكي) –وهى مُبشرة عملت وسط النساء السودانيات فترة طويلة في منتصف القرن العشرين– "أن زواج الأقارب غالباً ما يتم بين الأسر الكبيرة والهامة (بين أبناء وبنت العم) من مختلف درجات القرابه للحفاظ على أي ثروة (مال – حُلي ذهبية) داخل مجموعة العلاقات المحدودة".
وهو ما يؤكده الباحث الشعبي (محمود أحمد فضل) بقوله: "إن إبنة العم هي المُفضلة للزواج عند قبائل الجعافرة الأسوانية –عموماً في معظم المجتمعات القبائلية– من أجل الحفاظ على الأرض الزراعية المحدودة الخاصة بالأسرة وحتى لا يقتسمها معها آخر"
ولأن الشيء بالشيء يُذكر نرى أن نذكر هنا عدد من الأمثال الشعبية التي احتفت بزواج الأقارب وروجت له، ومنها الأمثال التي أوردها صالح زيادنة في كتابه (الأمثال البدوية) باب الزواج والعلاقات العائلية..
• النُّوَّارَة ما بتطلع من الحارة.
• اللي بيستحي من بنت عمه ما بيجيب منها ضعوف.
• ولد العم بينَزِّل العروس من القْطَار.
• وَلَد عمها قَطَّاع رقبتها.
وهناك مثل تقوله النساء للحثّ على زواج الأقارب بعضهم من بعض يقول:
• خُذ من طينة بلادك وحُطّ على خدادك.
ويقولون كذلك:
من استحى من بنت عمه ما جاب منه عيال.
خود بنت قرابه ولا تاخد بيت غرابة (مغربي).
زواج بنت العم أو سيدة للهم (مغربي).
نار القريب ولا جنة الغريب.
عليك بالطريق ولو جارت وبنت العم ولو بارت.
بنت العم بتصبر على الجفا والحفا.
ابن العم بينزل بنت عمه من الفرس.
ابن الخال متخلي وابن العم متولي.
زون بلادنا ولا القمح الصليبي.
ومن أطرف ما أورده (محمود أحمد فضل) في كتابه (الأغنية الفلكلورية للمرأه المصرية), أغنية فلكلورية توضح سهولة الزواج من ابنه العم، إذ تقتصر كل المطلوب منه في أن يأتي بخيرات أهل منزله إلى العروس
إن كانت عاوز عروسك
بنت عمك ليك
كسر كنون الحمام
وهات البيض في إيديك
***
إن كنت عاوز عروسك
بنت عم أمك
كسر كنون الحمام
وهات البيض في كمك
إلا أن ثمة أمثال اخرى حذرت من مغبة الزواج من أقارب مثل:
خود من الزرايب ولا تاخد من القرايب.
كون قريب ولا تكون نسيب.
من رزالتوا أخد بنت خالتوا.
من همه أخد بنت عمه.
لكن يبقى –رغماُ عن أنف هذه الأمثال– زواج الأقارب هو المفضل في المجتمعات القبائلية ومنها المجتمع السوداني الذي لم يجد أفضل من زواج النصارى ليضعه موضع المشابهة في أحد أرق عبارات التهنئة المُطمئنة التي يتبادلها السودانيين في أفراح أولاد العم.
7- (جيزة نصارى)... (جازة نصرانية)... (جواز مسيحيين).. والبقية تأتي.
أظن –وهو غالب الظن– أنه لو تسنى للباحثين في عوالم الأدب الشعبي إجراء مسابقة لإختيار أكثر الكنايات البلاغية شيوعاً وذيوعاً وتداولاً بين عامة الشعب لحصلت كناية (جيزة النصارى) -أو ما يوافقها ويشابهها لغوياً– على مراكز متقدمة دون أدنى شك في ذلك، فبالإضافة لما أورده العلامة المحقق (أحمد تيمور) من أن "ومن الكنايات قولهم (جوازة نصارى)" وما أورده الأستاذ (محمد الراوي) في كتابه (موسوعة الأمثال الشعبية في الوطن العربي) وقال فيه "زي جيزة النصارى ويُضرب لعدم الخلاص من الموضوع" وما أوردته كافة مراجع الأمثال الشعبية والكنايات العامية البلاغية تقريباً حول هذه الكناية البلاغية، بالإضافة لكل ذلك نجد أن مُحركات البحث على الشبكة العنكوبتية زاخرة بهذه الكناية –ومُتخمة بإخواتها اللغوية- على غرار (جيزة نصارى) أو (جازة نصرانية) أو (جواز مسيحيين) أو (زواج كاثوليكي) وسواهم الكثير.
وتستطيع عزيزي القارئ عبر هذه المحركات أن تستطلع مدى انتشار مثل هذه الكنايات البلاغية والتي إن دلت على شيء فهي تدل على مدى تغلغل وسيطرة (جيزة النصارى) كنسق إجتماعي مُميز ومتفرد على عقول وأذهان كل من قرر أن يخوض في هذه المعركة الإجتماعية التي اصطلحوا على تسميتها بالزواج.
وحتى يتسنى لك أن تتأكد مما يقول أحمد تيمور وإبراهيم أحمد شعلان ومحمد الراوي لا بد وأن تحصل على كورس مكثف في "التباديل والتوافيق" وكورس آخر لا يقل كثافة في "كيفية استحدام محركات البحث".
الآن وقد حصلت على كليهما تستطيع أن تتبع معنا الخطوات التالية لتقطع شكك بسكين اليقين..
1- قُم بعمل مجموعتين من الكلمات..
المجموعة (أ).. (جيزة – جوازة – زواج – جواز – جازة..إلخ)
المجموعة (ب).. (نصارى – مسيحيين – نصرانية...إلخ) قد تحتوي المجموعة الثانية على كفرة – قردة وخنازير – زنادقة.
2- قُم الآن بدمج كلمات المجموعتين بطريقة تبادلية توافقية لتحصل في نهاية الأمر على مجموعة من الجُمل المكونة من كلمتين.
3- الآن –وإن كان عندك كومبيوتر متصل بالشبكة العنكبوتية بالطبع– قم باستخدام محرك البحث جوجل بصوره التخصصية والتي تنحصر في طريقتان.
أ - إما أن تضع علامة (+) بين كلمة من المجموعة الأولي وأخرى من المجموعة الثانية.
ب - أو أن تضع الكلمتين ما بين علامات التنصيص هذه " ".
4- ستجد العديد من المواقع التي أشارت في فحواها لهذه الكنايات.
فهذا مسيحي تلاحقه وتحاصره التأكيدات الشعبية (ده جواز نصارى) أي احترس و (حاسب قبل ما تناسب)، وهذا مُسلم تقدم لطلب يد فتاه مُسلمة ولم يجد ما يطمئنها هي وأهلها أكثر من التأكيدات المتواصلة من أن زواجه سيكون (جواز نصارى)، وهذا آخر يؤكد أنه في الزواج (مسلم كاثوليكي) أى –وباختصار- لا طلاق عنده حتى ولو لعلة الزنا... لا طلاق على الإطلاق، وهذا منتدى يروج لذاته بأن يحث أعضائه أن لا ينفصلوا عنه وأن لا يتركوه وأن يعاوده دائماً وأبداً وأن يكونوا في ارتباطهم به كـ (زيجة النصارى)، وهذا عالم تداول الأوراق المالية –نعم البورصة ولكم أن تتخيلوا– والنصيحة الأبدية للأجنة في رحم البورصة –صغار المُضاربين إن أساء أحد فهم التعبير– بألا يكون إرتباطهم بالأسهم المتدوالة كـ (زواج النصارى) حتى لا تطولهم الخسارة وتقصف رقابهم وأعمارهم البورصية –إن جاز الوصف–.
ويقولون:
1- الحمد لله اللي خلانا مسلمين كاثوليك ناخذ الحرمة يا نقضي عليها يا تقضي علينا مثل ما يقولون الأولين ((جيزة نصارى))....
2- والعامة يقولون على الزواج المسيحي (عُقدة نصارى)، أي عُقدة لا يمكن فكها بسهولة، ولا تنفك الزيجة المسيحية إلا لأحد الأسباب الثلاثة (الموت، أو الزنا، أو ترك الدين)...
3- و من مرثية المواطن والدولار وزيجة النصارى ننقل "إلى متى نتعلق بهذه العملة الشمطاء الحمقاء المسماة بالدولار.. وإلى متى سعر نفطنا مبرمج بهذه العملة دون سواها.. وإلى متى نتجرع آهات وآلالام وأوجاع وحروب وتقلبات هذه العملة.. ندرك تماماً أنه من الصعب جداً إن لم يكن من المستحيل أن نتخلص ما بين عشية وضحاها من هذه الزيجة النصرانية كما هو المثل الشائع والداراج (زيجة نصارى..!!).."
4- صدقت وذكرتني بالمثل إللي يقول (زيجة نصارى) يعني ما في فكه منها....
5- على فكرة أنا مثل ما يقولون "مسلم كاثوليكي" أو على قولة الأولين "زيجة نصارى" الزوجة إللي معاي يا أموت قبلها وإلا تموت قبلي.
6- وهناك مقولة عندنا تقول لمن يتمسك بالشيء ((زيجة نصارى)) فعرف عن النصراني أنه يتزوج إمرأة واحدة فيبقى هو وهي حتى يحدث الله أمراًً.
7- عندما تكون جميع وسائل الإعلام رسمية (تابعة للدولة) ولا يوجد صحيفة واحدة حرة, فهذا يعني تكميم الأفواه والعيون والآذان,,, وعندما تتصفح تلك الصحف"الرسمية" على سبيل المثال: تجد الصفحة الأولى مجوزة (جيزة نصارى) فقط لأخبار أصحاب السمو.
8- وهذه دعوة من أم عجوز لإبنها وزوجته "ربي عسى ما يفرقكم.. وتغدي جيزتكم جيزة نصارى".
9- جواز نصراني ولا جواز إسكندراني.. على أساس أن الأسكندرانية عيارهم فالت، ويُقال إن البنت الأسكندرانية وشها مكشوف من الحياء.
8- يللي بيطلق مرتو أكبر خطية، ويللي بياخد مطلقه أكبر بلية.
في سوريا أورد الدكتور (محمد حسن عبد المحسن) في أطروحته "الذوق الحلبي في التراث الشعبي.. الرجل نموذجاً "مثلاً لا نجد بداً من أن نذكره هنا لما وجدنا فيه من تجسيداً شعبياً لواحدة من أهم آيات العظة على الجبل التي قيلت عن الطلاق في المسيحية.
يقول المثل.. (يللي بيطلق مرتو أكبر خطية، ويللي بياخد مطلقه أكبر بلية).
وهو ما نجده متشابهاًً إلى حد كبير مع الشريعة التي أرساها السيد المسيح بخصوص الطلاق "وأما أنا فأقول لكم إن من طلق إمرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني, ومن تزوج بمطلقة فإنه يزني" (مت 5 : 22).
وحينما أتى الفريسيون مرة فسألوه في موضوع الطلاق ضمن إجابته لهم بقوله "وأقول لكم أن من طلق إمرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى يزني" (مت 19 : 9, لو 16 : 18).
وأورد مرقس الرسول نصاً أكثر وضوحاً "ثم في البيت سأله تلاميذه أيضاً عن ذلك, فقال لهم: من طلق إمرأته وتزوج بأخرى, يزني عليها وإن طلقت إمرأة زوجها وتزوجت بآخر تزني" (مر 10 : 10 , 11).
لن نزعم هنا بالطبع –إلى حد الجزم– أن المثل صيغة شعبية من الآية التي وردت في الإنجيل، إذ أن الأمر قد يُفسر بطريقة أخرى (يللي بيطلق مرتو أكبر خطية -على سبيل أن أبغض الحلال عند الله في العرف الإسلامي هو الطلاق- ويللي بياخد مطلقه أكبر بلية –على سبيل أن ثمة رفض اجتماعي وشعبي للزواج من المطلقة).
9- وأخيراً إشارات خفية ومُتوارية..
أظنكم أكثر ذكاءاً من أن تظنوا أن (وأخيراً إشارات متوارية) مثلاً آخر يؤرخ شعبياً لـ (زيجة النصارى)
لا يا سادة ليس مثلاً –إن حسب أحدكم أو كلكم ذلك–، ما نريد أن نورده هنا –ونؤكده– أنه وإن كان ما ذكرناه سلفاً بمثابة التمني الشعبي العلني لـ (زيجة النصارى) فإن ثمة إشارات خفية ومُتوارية رصعت قواميس ومعاجم الأمثال الشعبية ونذكر منها هنا مثالاً لا حصراً ذلك المثل الذي أورده (شرف الدين بن أسد المصري) في واحد من أقدم مخطوطات الأمثال الشعبية والذى ينتمى بحسب دراسات حديثة إلى مخطوطات العصور الوسطى بل ويعتبر –في عُرف كثيرين من دراسي فنون الأدب والتراث الشعبي- المجموعة الأولى والوحيدة من العصر الوسيط والتي تسبق كشكول العاملي بأكثر من ثلاثة قرون..
يقول المثل "عمارة البيت ولا خرابة..."
وقد قال فيه (جون لويس بوركهارت) "تُشير كلمتي عمارة وخرابة إلى بيت (منزل العائلة)، فإن كلمة "عمارة" تعني المحافظة على بناء الأسرة بأن تعيش الأم مع زوجها وأولادها، "وخرابة" تعني هدم الأسرة بطلاق الأم واضطرارها لترك منزلها ويُقال "خرب البيت" عندما يموت العائل.
ويُقال أيضاً عن العمارة "بيت الزوجه عمران وبيت الزوجتين عدمان..." وهى إشارة شعبية خفية للرفض الشعبي لفكرة تعدد الزوجات وارتباطه جذرياً بفكرة (شريعة الزوجة الواحدة) ومدى ارتباط "عمار البيت بها" وهو ما سنعود لنناقشه تفصيلاً وإجمالاً في صفحات تالية.. |