بقلم: د. أحمد الخميسي
لو أن أحدًا حكى لي هذه القصة ما صدقته. فقد دق جرس المحمول الخاص بي ذات يوم، وسمعت صوتًا غليظًا به حشرجة التدخين يقول: يا أوستاذ ابنتي تكتب الشعر وتريد أن تنشر قصائدها. هل تساعدها؟ فإذا نشرتم قصيدة من تأليفها هل تدفعون لها مكافأة؟.
قلت: لا بد أولاً أن أقرأ شيئًا مما تكتبه.
قال: لحظة واحدة.
وسمعت صوت خشخشة فظننت أنه يناول السماعة لابنته، لكني فوجئت بالرجل نفسه يتنحنح ويبسمل ويصيح كتلاميذ المدارس: قصيدة الحب الأول للشاعرة ولاء حسن! وأخذ يقرأ علي ما كتبته ابنته! وحط عليّ ذهول فقد، أدركت أن ابنته الشابة الصغيرة الكاتبة ممنوعة من مخاطبة الرجال! وألزمني الصمت شعور قوي بالأسف، بينما صاحب الصوت الخشن يزعق : آلو.. آلو.. يا أوستاذ..عجبتك القصيدة؟ آلو.. يا أوستاذ؟.
تساءلت بيني وبين نفسي: ماالذي يمكن أن تكتبه فتاة شابة موهوبة محاصرة إلى هذا الحد؟ الحب الأول موضوع قصيدتها كان كما اتضح حبها لأمها، الحب المُتاح رسميًا اتخذته غطاء للحديث عن عاطفة أخرى لا هبة.
وتذكرت قصة أخرى لكاتبة قصصية تزوجت من شاب يكتب هو الآخر، لكنه سرعان ما اكتشف أنها هي الموهوبة وأنه لا شيء، فمنعها بمختلف الذرائع من الكتابة والنشر، لكنها العام الماضي طبعت مجموعتها القصصية على حسابها باسم مستعار وأخفت نسخها عند صديقة لها وصارت توزعها في السر! لأنها تعتقد كما قيل لها منذ طفولتها أن "ظل رجل ولا ظل حائط" حتى لو كان ذلك الرجل مجرد سخافة متحركة.
تذكرت قصة فتاة أخرى من الصعيد تكتب في الليل سرًا ، دون علم أهلها!.
تذكرت ما حكته لي أديبة من القاهرة، حين قالت إنها لا تستطيع أن تعبر بما تكتبه عن كل مشاعرها كامرأة، لأنها متزوجة!.
تذكرت نساء استطعن أن يحطمن كل تلك الحواجز مثل فاطمة زكي، وسناء المصري، ولطيفة الزيات، ورضوى عاشور، وبهيجة حسين، وغيرهن، لكنهن قلة واستثناء وسط القاعدة الكبيرة.
تذكرت نساء من الجانب الآخر مثل الثائرة الروسية العظيمة لاريسا كرايسنر التي كتب عنها فاديم أندرييف: "لم يكن هناك رجل واحد يمر بها دون أن يتجمد في الأرض كالعمود، بيد أن أحدًا لم يكن ليجرؤ على الاقتراب منها أبدًا، فالكبرياء التي تشبعت بها كل حركة من حركاتها كانت تحميها بجدار صخري لا يُخترق".
هي لاريسا التي أعطت الأمر للمدرعة أفرورا لإطلاق المدافع معلنة انتصار ثورة.
تذكرت الكاتبة الأمريكية العظيمة هارييت ستو التي كتبت "كوخ العم توم" وكانت ربة منزل تعني بستة أولاد، وأشعلت بروايتها حركة تحرير العبيد، وحين التقاها الرئيس الأمريكي لينكولن صافحها بإجلال قائلاً لها: "أنت إذًا المرأة التي أشعلت الحرب"!.
يحدث أن تستطيع المرأة تحطيم الحصار حولها والنفاذ إلى نور وجودها ووعيها وكرامتها، لكن ذلك يحتاج إلى إرادة استثنائية، ولا يمكن أن يكون المجتمع اختبارًا قاسيًا للمرأة، فلا بد للمجتمع أن يساعد على تطوير المرأة لقدراتها وطاقتها.
وفتح الطريق أمام المرأة لا يتم بإصدار التعليمات بمنع الطالبات من ارتداء النقاب، فإذا أنت نزعت النقاب بالقوة فإنك لن تنزع فكرة النقاب من رأس الفتيات.
أيضًا فإنك إذا ألزمت امرأة بارتداء النقاب فإنك لن تنزع فكرة الحرية من رأسها.
وكان الأجدى والأفضل من قرارات الأزهر ووزارة التعليم العالي بنزع النقاب أن يفتح التعليم المشترك للبنين والبنات، لتعليم وتربية البنت أنها لا تقل في شيء عن الولد، وتعليمها أن "أعز ما تملك" هو عقلها وكرامتها وعلمها وعملها، وتلقينها أن مخ المرأة الأقل وزنا من مخ الرجل قد يتفوق في الذكاء على أي رجل.
المطلوب وضع شروط اجتماعية لدفع المرأة للأمام، أما الأوامر والتعليمات فهي آخر ما ينفع.
هناك عبارة شائعة أن وراء كل عظيم امرأة. لكن المرأة عندنا وراء الرجل في كل الأحوال، سواء أكان الرجل عظيمًا أم سخيفًا فارغًا، سواء أكانت تدفعه للأمام أم تجره للوراء، فوضعها الطبيعي لدينا أن تكون وراء الرجل. وعلى المرأة قبل غيرها يقع عبء أن تضع نفسها حيث تستحق، في دوائر النور والإبداع والتأثير.
***
Ahmad_alkhamisi@yahoo.com |