هل للموت رائحة نشعر بها عقب فراق عزيز؟ وهل نتعظ حقا من الموت، أم هى مجرد لحظات للتأمل وربما للعظة، تأخذنا بعدها الحياة اليومية بدوائرها وهمومها الجهنمية؟!
من المؤكد أن معظمنا مر بتجربة فقدان حبيب أو غال من أهله أو من أصدقائه، وكثير منا تأمل تلك اللحظة وشعر أنه مجرد راكب فى رحلة قد تطول أو تقصر، ولكنه حتما لابد أن ينزل فى محطة ما مجهولة لا يعرف عنها شيئا، وليس هو صاحب قرار نزوله ولا يدرى أصلا دوافعه. هذا الأمر دفع رفاق «الرحلة المجهولة» إلى الحديث عن دلالات هذا النزول المفاجئ إلى محطة لا يعرف عنها شيئا، ولم يذهب أحد إليها وعاد ليقص علينا ما شاهده، هو إذن ذهاب إلى مجهول لا نعرف عنه شيئا.
صحيح أن هناك بعض الإشارات الدينية القليلة عن لحظة الموت وخروج الروح إلى بارئها، والبرزخ الذى يعيش فيه الإنسان بعد موته بين الحياة ويوم البعث، ولكن كلها إشارات لا تتيح لأى منا نقل خبرة الموت إلى الآخرين، لأنها بالتأكيد رحلة لا عودة.
والمؤكد أن اختفاء الأشخاص المؤثرين فى حياتنا هو خبرة إنسانية قاسية، لأنه مهما تحدثنا عن تكريم الراحل أو الفقيد، إذا كان من بين هؤلاء الذى يستحقون التكريم مثل محمد السيد سعيد، فإننا نكرّمه بمعاييرنا «الدنيوية»، ولكن بالتأكيد الشخص المكرم ذهب إلى عالم آخر لا نعرف إذا كان «سيفرق» معه هذا التكريم أم لا.
والحقيقة أن «رائحة الموت» اعتدت أن أستنشقها بعد وفاة الأعزاء، ربما لأن معظم من فقدتهم فى قطار الحياة كان غيابهم فجائيا، فأبى توفى بأزمة قلبية مفاجئة عن عمر يناهز الـ ٤٨ أثناء اجتماع عمل وكان عمرى ١٣ عاما، ثم توفى عمى الذى كان أبا ثانيا وأنا طالب فى الجامعة، ثم توفى ابن خالٍ، نادر فى طيبته عن ٣٤ عاما بهذا الورم اللعين، وكان فى أتم صحة وعافية كضابط فى القوات المسلحة تاركا طفلة عمرها ٤ سنوات.
وعرفت مرارة فقدان أول صديق فى حياتى منذ أكثر من عشر سنوات بوفاة أحمد لاشين عن عمر يناهز الـ ٣٨ عاما بأزمة قلبية مفاجئة، وكان شخصا نبيلا لأقصى حد، وأخا وحيدا على ثلاث بنات: آبية وفاطمة والأخيرة زميلتنا الصحفية اللامعة منال لاشين.
وجاءت وفاة أحمد عبدالله رزة، أحد أبرز قيادات جيل السبعينيات وأكثرهم إلهاما ونقاء منذ ما يقرب من أربع سنوات عن عمر يناهز الـ ٥٤ عاما، لتدفعنا إلى ربط الموت فى مصر بالأوضاع السياسية، وأذكر أنى كتبت مقالا فى «المصرى اليوم» عن تلك الفاجعة التى سميتها «حسرة جيل»، وكيف أن أحمد عبدالله كان ألمع أبناء جيله وحصل على الدكتوراة من جامعة كمبردج فى بريطانيا، ولأنه كان محترما وسياسيا وعالما، لم تقبله أى جامعة مصرية ولا مركز أبحاث واحد، ومع ذلك ظل يحمل درجة من النقاء والتصالح حتى مع من «ظلموه»، يندر أن تجدها فى هذا العصر.
وعاد الموت واختطف منذ أكثر من عام المفكر عبد الوهاب المسيرى، وكان تجاهل الحكومة له سواء بعدم تحملها نفقات علاجه، أو غيابها عن جنازته، يدل على ترسخ هذا التبلد النادر وغير المسبوق تجاه احترام قيمة الكفاءة والموهبة والإبداع.. صحيح أن المسيرى اختار فى نهاية حياته أن يكون منسقا عاما لحركة كفاية، ونزل إلى الشارع يتظاهر ضد الحكم، وكان مفهوماً أن تغضب منه الحكومة، ولكنها إذا كانت «تحس» ستحترم على الأقل قيمة الرجل الذى قدم أهم موسوعة عربية بالمعنى العالمى للكلمة عن الصهيونية، وقدم إنتاجا فكريا عظيما..لايزال كتابه العلمانية الجزئية والشاملة، رسالة اعتدال بين قوى التطرف الدينى والعلمانى على السواء. وبالتالى لم يكن المطلوب تدليله، إنما على الأقل تحمل نفقات علاجه، لأنه قيمة وقامة قبل أن يكون معارضا أو مؤيدا.
وعاد الموت واختطف د. أحمد ثابت وهو لم يتجاوز الثانية والخمسين من عمره، و«أحمد» عرفته منذ أن دخلت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وكان هو فى آخر سنة وكنت أنا فى أول سنة، وكان يأتى لعالم السياسة الراحل حامد ربيع الذى كان يقطن فى العمارة نفسها التى أسكن فيها وعمل معه كباحث مساعد وكان يحصل فى ذلك الوقت، أى منذ ٣٠ عاما، على راتب خمسة جنيهات فى الشهر، وربما تكون قيمتها الآن ٥٠٠ جنيه.
وأعتقد أن أحمد كان الشخص الوحيد الذى عرفته فى حياتى لم يتغير منذ أن كان طالبا فى الجامعة حتى أصبح أستاذا فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بعفويته وتلقائيته نفسها التى سببت له أحيانا مشاكل كثيرة ولكنه بقى كما هو لا يتغير.
وعاد الموت واختطف محمد السيد سعيد، بعد صراع طويل مع المرض، تعرض فيها «لرذالات» وتبلد البيروقراطية المصرية، إلا أنه ظل شامخا معتزا بنفسه، حتى تحملت الحكومة الفرنسية مشكورة نفقات علاجه.
والمفارقة أن محمد السيد سعيد لم يكن فرانكوفونياً، ولم يدرس فى فرنسا ولا تربطه بها أى علاقة ثقافية أو سياسية، ولأنها فقط بلاد تحس وتقدر معنى الكفاءة وقيمة أن تكون مؤمنا بفكر ديمقراطى، وبمبادئ حقوق الإنسان كقيم عليا، حتى لو اختلفت فى التوجهات والمواقف السياسية (كما هو معروف.. كان د. محمد السيد سعيد من أكثر من انتقدوا سياسات الغرب الاستعمارية فى المنطقة) فتكفلت بعلاج الإنسان والمفكر والقيمة.
ومحمد السيد سعيد كان من القليلين الذين دخلوا مؤسسة عامة مثل الأهرام، وحافظوا على تمردهم، ولو المحسوب، وعلى رؤيتهم النقدية واستقلالهم المدهش عن كل مغريات السلطة وتبلدها وأساليبها المراوغة.
صحيح أن د.محمد (كما كنا نناديه، وكثيرا ما كان يقول لى بابتسامته الرقيقة أنا اسمى محمد السيد سعيد فقط) لم تكن لديه موهبة الإدارة أو بالأحرى امتلاك قدرة إدارة فريق عمل أو مؤسسة تكون على نفس مستوى أفكاره اللامعة، ولكنه كان يمتلك موهبتين أكثر أهمية: الأولى تلك القدرة النادرة على خلق أفكار مبدعة وملهمة، مثلت علامة فارق، فى تاريخ الفكر السياسى المصرى، والثانية هى عبقرية وشجاعة الاتساق مع النفس، فما يقوله، هو ما يؤمن به، وما يكتبه هو قناعاته وليست إملاءات من أحد ولا من أجل أحد، كما أن شجاعته أيضا فى طرحها دون أى حسابات ظلت صفة لصيقة به، ولعل شجاعته النادرة حين حول درس الإملاء (بتعبير زميلنا الأستاذ بلال فضل) الذى يضم الرئيس مع ما يعرف بالمثقفين فى معرض الكتاب إلى مناقشة جادة حول ضرورة الإصلاح السياسى، قد دلت بصورة قاطعة على شجاعة واحترام نادرين، وهما قيمتان كان مصيرهما التجاهل والسخرية.
بموت محمد السيد سعيد فقدنا صديقا وأستاذا ومفكرا نادرا، وأن هناك صفحة فى طريقها أن تطوى فى مركز الأهرام للدراسات، وأن توقيت موته سيظل حكمة بيد الله، ولكنها كما هى العادة لا تمنع من التأمل والتساؤل: هل المستقبل أسوأ وبالتالى لن يكون هناك مكان لمحمد السيد سعيد، أم أفضل فاختاره الله لكى يكون واحدا من ملهمى هذا المستقبل لا جزءا من تفاصيله التى ربما لن يستطيع التعامل معها؟! هى كلها اجتهادات الدنيا من وحى رائحة الموت ولكن الحكمة عند الله سبحانه وتعالى.. وإن لله وإنا إليه راجعون.
amr.elshobaki@gmail.com
نقلا عن المصري اليوم |