CET 00:00:00 - 15/10/2009

مساحة رأي

بقلم: انطوني ولسن
اولا: في مصر
(2)
(ذكريات.. العمر اللي فات هي محطة استراحة فكرية انزل فيها من قطار الحاضر محاولا الاسترخاء والتجوال في شوارع وحارات ومدن وحدائق حياتي.. واثناء تجوالي أحكي للقاريء حكاية من هنا أو من هناك، وأربطها بحكاية أخرى أو حكايات. وان اقتضى الأمر العودة الى قطار الحاضر سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر، الذي سيصبح يوما.. ذكريات.. العمر اللي فات).
دعونا الآن نكمل الحكاية..
... وما زلت اتذكر محبة المرحومة والدة الخولي التي كانت تتحدث الى المرحوم زوجهاوتشكو له خوفها وهواجسها من صداقة ابنهما محمد لهذا النصراني، دون ان تعرف انني ما زلت في غرفة ابنها محمد..
لن انسى ما حييت رد رجل العلم والدين وإمام مسجد الحي الذي بدأ يعدد الصفات الحسنة للنصارى. وكانت تلك هي المرة الاولى في حياتي التي أسمع فيها قولة نصراني عني. ومع ذلك لم تؤثر في العلاقة بين الاسرتين والتي اصبحت اكثر ارتباطا ومحبة.
ُترى هل يوجد الآن إمام مسجد مثل المرحوم عم عبد الله الخولي، ويجيب أي سائل عن النصارى مثلما أجاب هو المرحومة ام اولاده؟!!
انتقالي الى مدرسة الامير فاروق جعلني أشعر برجولتي مبكرا وأتعلم معنى الحرية ومعنى العمل السياسي في شكل الاشتراك في المظاهرات التي كنا نقوم بها ضد الحكومة والوزارة والمحتل الانجليزي.
وأمر آخر غريب.. في مدرسة (أوده باشا) كان يصرف لنا الغذاء على شكل (ساندويتشات)، اما في مدرسة الأمير فاروق فكان الغذاء ايام السبت والاحد والثلاثاء والاربعاء طعاما مطهياً في مطبخ المدرسة الكبير، ومتنوعا من لحوم ودجاج واسماك مع الخضار والفاكهة الطازجة يوميا. اما في ايام الاثنين والخميس فكانت سلتا (الساندويتشات) توضعان امام كل فصل ويخرج الطلبة من الفصل واحد وراء الآخر ليحصل كل منا على سندويتشين، ثم نعود وندخل الفصل مرة أخرى ونخرج لنأخذ سندويتشين اخرين ونكرر هذا العمل حتى يتم توزيع كل السندويتشات والفاكهة علينا.

والأكثر غرابة ان يوم الاربعاء وهو (يوم صيام عادي عند الاقباط يصومه من يريد)، كانت ادارة المدرسة تسأل يوم الثلاثاء الطلبة والمدرسين الاقباط، اذا كانواسيصومون ام لا، لاعداد طعام صيامي لهم. بل ان في صيامات الأقباط كانت المدرسة تعد طعاما خاصا ايضا للطلبة والمدرسين الاقباط الصائمين.
ولا أعرف اي شيطان حدا بي ان اتذكر هذا لأمر ويضع سؤالا ملحا أبحث عن إجابة له. هل كان وزير المعارف، في تلك الفترة الزمنية من تاريخ وحياة ووجه مصر، هل كان مصريا؟!! وهل كان مسلماً؟! فاذا جاءت الاجابة بالايجاب، وهي فعلا بالايجاب، اتساءل عن وزيري التربية والتعليم والتلعيم العالي في الوقت الحاضر اللذين لا نلومهما على وجبات الغذاء التي تقدم للطلبة الفقراء (لأن ذلك كان قبل انقلاب العسكر الذي الغي وجبات الغذاء للفقراء، وأباح وجبات النهب والسلب من اموال الفقراء للمصفقين والمنافقين والمقربين). وانما نلومهما على وضع جدول امتحانات الطلبة في ايام اعياد النصارى الدينية دون مراعاة لمشاعرهم او لوجودهم اصلا في البلاد. واتساءل هل هما مصريان؟ وهل همامسلمان؟ الاجابة عن الشق الثاني لا بد انها ستكون بنعم، اما الشق الاول من السؤال فانا نفسي اشك في مصريتهما وفي مصرية الكثيرين ممن يحكمون مصر بعد (الانقلاب العسكري).

لانهم نسوا او تناسوا الوحدة الوطنية، نسوا اوتناسوا دماء النصارى التي سالت واختلطت بدماء المسلمين دفاعا عن مصر. نسوا او تناسوا ان وزير المعارف الذين عايروه بانه اعمى، عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الرجل الحر الذي قال مرة ان (التلعيم مثل الماء والهواء حق لكل مواطن)، لكنهم اعطوا حق المواطنة للبعض وحرموا البعض الآخر منها بسبب الدين. فأصبح ابناء البعض، على الرغم من حصولهم على درجات اقل في الثانوية العامة لا تؤهلهم للألتحاق بالجامعات، غير ان الحكومة وجدت لهم حلا ومخرجا بفتحها كليات علمانية ادرجتها ضمن الجامعة الازهرية. والأمر العجيب ان الماء لوثوه ولم يعد صالحا للشرب. بل اصبح غير موجود في بعض القرى. اما الهواء.. يا ليتك كنت موجودا الآن لتسمع انه اصبح يباع في اسطوانات باللتر وبأسعار باهظة ويقولون عنه هواء نقيا غير ملوث.
اما عن التشدق بالوحدة، الوطنية.. فعندما اقارن مقارنة بسيطة في امر غاية في البساطة مثل امر الطعام في المدارس الحكومية قبل الانقلاب واهتمام الوزارة بالطلبة والمدرسين الأقباط بماسيأكلون في الصيام، أبكي على تلك الايام التي لا اظن انها ستعود ابدا. وصدقت ام كلثوم عندما غنت (وعايزنا نرجع زي زمان.. قول للزمان ارجع يا زمان...) وطبيعي لن يعود الزمان كما كان، ولن تجد في مصر الآن من يهتم بمصر وكل واحد ممسك بمعول هدم باذلا قصارى جهده في هدم مصر وكيان مصر وسمعة مصر التي اصبحت في الوحل، وفشل وزير ثقافتها في الحصول على مركز مدير اليونسكو ليس فقط لتدخل اسرائيل واميركا.. ولكن العالم اصبح يعرف ويعي كل شيء.. وبدأت غمامة الحرية والديمقراطية التي أعمت عيونهم وافكارهم عن حقيقة ما حدث لمصر والدول العربية.. اقول بدأت هذه الغمامة تنقشع وتتضح الرؤية. ولم ينفع الوزير خطاب أوباما في القاهرة، لأن اوباما على الرغم ان له جذور افريقية واسلامية، إلا انه اميركي المولد والوطن ولا اظن انه ذلك الانسان الذي ينساق وراء العواطف ان كانت دينية او غير دينية ويبيع وطنه مثل الكثيرين من حكام العرب.

تعود بي ذاكرتي لتعيد ذكرياتي عن يوم محدد كان له اثرعميق في نفسي الغضة المنطلقة الى التعرف على الحياة السياسية والاجتماعية. ذلك اليوم هو يوم السبت السادس والعشرون من شهر يناير 1952.
ذهبنا الى المدرسة (مدرسة الامير فاروق بالترعة البولاقية) وقفنا في طابور الصباح لاول يوم في الاسبوع. دقائق قليلة وخرج قادة المدرسة من  الطلبة. طلبة في مدرسة ليس بها سوى فصلي سنة اولى وسنة ثانية ثانوي. ومع ذلك ترى الواحد منهم في حجم الرجال الكبار، وقد تخطوا سن العشرين. هم الذين يديرون الشؤون السياسية بالمدرسة. تقدم (الزعيم) واخذ يخطب فينا بحماس ونوّه عن القصر الملكي والملك وتعاونه مع المستعمر والمحتل الانجليزي. اخذ يهتف (الجلاء التام او الموت الزؤام) وايضا (فليسقط الخونة ولا مكان لحكومة عينها القصر).
لم اكن افهم شيئا ابدا من كل هذه الهتافات، ولكن حب المشاركة في العمل الوطني هو الذي كان يدفعني الى ان اشترك في المظاهرات وان كنت غير هتّاف مثل الآخرين. اي انني لا اتذكر انني رفعت صوتي أهتف لا بسقوط ولا بجلاء. ولكني احب المشاركة والاحتكاك والمعرفة.

أعود الى ذلك اليوم وما ميزه، اجد ذاكرتي تقودني الى تذكّر العنف الذي تميز به. العنف المحطم للأشياء التي تطولها ايدي الطلبة.. حطموا سقوف (التراموايات) ومقاعدها والبصات ايضاً. ولا اتذكر ان في المظاهرات السابقة كان الطلبة يميلون الى اي نوع من انواع العنف مثلما حدث في ذلك اليوم.
وصلنا الى ميدان ابراهيم باشا ثم ميدان العتبة، فنزلنا محمد وأنا، وقررنا عدم العودة بالترام او المشاركة في المظاهرات مرة اخرى، سرنا على اقدامنا وبدأنا نلاحظ اشياء اخرى تحدث امامنا. اناسا آخرين رجالا لا ينتمون الى وزارة المعارف، بل هم من عامة الشعب يسيرون في غضب عارم، يحطمون ويشعلون النار في كل ما هو امامهم.
اندلعت النيران، تحطمت المحلات التجارية، نهبت محتوياتها. غلَىَ الدم في عروقي، صرخت في وجوه الغوغاء اقول لهم هذه اموالنا لماذا ندمرها ونحرقها وننهبها، فما كان من المرحوم محمد عبدالله الخولي زميل الدراسة إلا ان شدني بعيدا واضعاً كف يده فوق فمي ليُسكتني حتى لا اتعرض لأي نوع من الأذى.
اتذكر في صباح يوم الأربعاء الثالث والعشرين من يوليو من العام نفسه 1952، وأنا في طريقي الى محل والدي في شارع شبرا، ان رأيت الناس وقوفا يستمعون الى المذياع. وقفت مع الواقفين، واستمعت مع المستمعين، وفرحت مع الفرحين، وتهلل وجهي باشراقة الأمل عندما سمعنا جميعا اعلان قيام الضباط الأحرار ( الأشرار ) بالاستيلاء على مبنى الاذاعة ومحاصرة عابدين والمنشأت الحكومية ومنها مجلس الوزراء والبرلمان.

غمرتني فرحة انا ابن الستة عشر ربيعا، في ذلك الوقت الذي لا يتعدى مفهومه عن الحياة سوى الدراسة واللعب مع من هم في مثل عمره. وان كان ارتباط الاربعة (محمد واحمد وناحوم وأنا) غير من سلوك اللعب مع الآخرين من شباب الحي. اقول غمرتني فرحة عارمة بأن مصر سوف يحكمها ابنائها، هؤلاء الضباط الاحرار (الاشرار) هم الذين سيحررون مصر من المحتل الانجليزي الغاشم. ولم افكر لا في خلع الملك فاروق، ولا في اسم من دبّر الحركة، وهل نطلق عليها ثورة، أم حركة!!.. بل فرحتي كانت فرحة شاب قرأ كثيراً وأعجب بكل  ماينادي به الكتّاب عن الحرية. وتعمق في عقلي ووجداني ان الحرية هي الحياة. وانه لا معنى للحياة بدون حرية.. وأن وجود محتل على أرض الوطن يعني وببساطة اننا غير احرار، لا في قرار مصيرنا ولا في اتخاذ ما يجب اتخاذه من تشريع القانون الذي يتماشى مع حياتنا، ويحدد علاقاتنا بالدول الاخرى، لم أفكر لا في وطن عربي، ولا في وحدة افريقية، ولا في دول عدم الانحياز. فرحتي انصبت في حريتي.. انا حر.. مصر حرة.. ابناء مصر من الضباط الاحرار (الاشرار) هم الذين سيسيرون امور البلاد لصالحنا.

واتذكركلمات ابي بعد الاطاحة بالملك فاروق في السادس والعشرين من الشهر نفسه والعام عينه عندما كنت اتعالى واتفاخر بالثورة ورجال الثورة. فكان أبي يهز رأسه ويقول لي (انتظر لا تعطي لخيالك الذهاب بعيدا عن ارض الواقع.. انهم رجال جيش .. رجال اوامر.. لا يفهمون شيئا عن السياسة والحنكة السياسية ولا اظن انهم اذا استمروا في تولي شئون البلد سيغيرون شيئا.. بل اخشى يا ولدي انهم سيغيّرون الى الأسوأ لا الى الأفضل).. لم اتكلم.. بل فغرت فاهي كالأبله محاولا فهم ما يريد أبي أن يقوله لي..
حتمية التغير كانت شيئا ملحاً في ذلك الوقت. القصر يريد التمرد على الاحتلال البريطاني. والاحتلال يريد ضرب القصر بالاحزاب، والقصر يريد استخدام الاحزاب كتهديد ورفع راية العصيان ضد الانجليز، وزارة تسقط واخرى تُعين وحرائق يوم السبت السادس والعشرين من يناير 1952 زادت من لهيب نار الغليان الذي تعيش فوقه البلاد.
لذا عندما اعلن الضابط انور السادات تحرّك الضباط.. هللنا جميعا وصفقنا جميعا وفرحنا جميعاً.
وبدأت دولة الشعارات..
(يتبع)

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٥ صوت عدد التعليقات: ٥ تعليق