CET 00:00:00 - 15/10/2009

مساحة رأي

بقلم: كمال غبريال
المفهوم الشائع للوطن والوطنية، يجعل من الدولة وقياداتها ليس فقط ممثلة للوطن، بل هي الوطن ذاته، ويتم الإيحاء بأن الولاء التام والأعمى لشخوص وتوجهات المسيطرين على مقاليد الأمور، هو عين الوطنية، وما عدا ذلك خيانة صريحة، أو على أحسن الفروض يعد من قبيل عدم الانتماء للوطن.
وفقاً لهذا التفكير يكون انتماء الإنسان الفرد للوطن أو بالأصح للدولة، باعتبار الوطن الكيان الواحد الذي يجمع الأفراد في وحدانيته، ويعني هذا أن يكون الإنسان الفرد جزءاً من كل. . كسراً عشرياً أو اعتيادياً من مجموع أبناء هذا الوطن، ويترتب على هذا تلقائياً أن يكون له ذات النسبة من الحقوق لدى الوطن (الدولة)، التي يتصاغر الفرد أمامها ليأخذ مجرد حجم الكسر العشري الذي يمثله. . ينسحب هذا بالطبع على أوضاع الأقليات دخل الوطن، إذ تسجن هذه الأقليات داخل نطاق نسبتها السكانية. . لا عجب هنا إذا استكثر البعض على الأقباط مثلاً أوضاعهم الحالية، رغم أنهم في العديد من مجالات الحياة يعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، كما ينظر للبهائيين أيضاً باستخفاف لا يليق حتى بالحيوانات الأليفة التي نربيها في بيوتنا، لمجرد أنهم بضع مئات أو حتى عشرات من المواطنين. . هذا هو الجذر الفكري للدول الشمولية، التي تسحق الفرد والأقليات باسم الأغلبية والمجموع، فعلى الفرد والأقلية أن ترضخ لما تقره الأغلبية، ولا بأس أن يتم القهر تحت مسمى الديموقراطية، في مغالطة وخلط فادح للمفاهيم.

الحقيقة أن هذا المفهوم الشائع للوطنية، موروث عن مرحلة القبيلة، التي كان الفرد يستمد وجوده وكيانه منها، وكان إذا ما طرد لأي سبب منها، يهيم على وجهه كالحيوانت الضالة، ما لم يستجر بقبيلة أخرى، يعيش عليها لاجئاً أو متطفلاً. . وكان من الطبيعي أن يترك هذا المفهوم للانتماء ظلاله عند تأسيس الدول الحديثة، فتم النظر للفرد ذات النظرة التي كان ينظر بها إليه في المفهوم القبلي. . وقد رسخت النظريات الشيوعية والاشتراكية هذا المفهوم، الذي تطرف في بعض الحالات، ليعد الفرد صفراً، مقارنة بالمجموع أو المجتمع، أو بقوى الشعب العاملة، أو ما شابه ذلك من التسميات والمفاهيم، التي شاعت فيما نعرفه بعصر الحداثة.

مع ظهور الفلسفات والرؤى التي تعلي من قيمة الفرد، والذي أسندت له الفلسفة الوجودية مثلاً معيار قياس الصواب والخطأ، وهو ما نجد له جذوراً في تعاليم السيد المسيح، التي جعلت الإنسان الفرد هو الرقيب الوحيد على ضميره، بكونه الوحيد القادر على تحديد متى تعثره عينه أو يده، أو متى نظر إلى امرأة ليشتهيها، وليس مجرد نظرة بريئة عادية. . هذه النظرة الجديدة التي تحفل بالفرد، وترتب عليها تعاظم شأن مواثيق ومعايير حقوق الإنسان، شكلت نظرة جديدة إلى العلاقة بين الفرد والمجموع، أو بين الفرد ومفهوم الوطن. . ليصبح الانتماء هو انتماء الوطن للمواطن وليس العكس، فالمواطن الفرد هو الواحد الصحيح، وليس كسراً عشرياً من مجموع، يترتب على هذا أن يكون الوطن كله ملك للمواطن الواحد الفرد، بالطبع الملكية الكاملة للوطن ليست حكراً على فرد واحد أو طائفة واحدة، مهما كبر عددها أو صغر، ولكنها ملكية كاملة لكل فرد من أفراد الوطن، كل منهم لدية وطن كامل، لا يحق لأغلبية أو أقلية أو حاكم فرد أو حتى حكم ديموقراطي، أن تنتقص من حقوقه فيه، أو من تحقيق الفرد الكامل لذاته وحريته، ليحيا ويفكر بالطريقة التي اختارها لنفسه داخل ملكه الخاص (الوطن)، مادام لن يفسد بممارساته حقوق باقي أفراد الوطن، في امتلاك ذات الوطن كاملاً، كمجال حيوي لتحقيق ذواتهم جميعاً، والاستمتاع والانتفاع بما يمتلكون على أكمل وجه.

يترتب على هذا المفهوم ما بعد الحداثي والعلماني للمواطنة أيضاً بطلان دعاوى عديدة، راجت في ظل المفاهيم المثالية، منها قهر الشعب لصالح حكومة قوية تحقق قوة الوطن وسيادته في مواجهة الأوطان الأخرى، فهنالك حتى الآن من يتحدثون عن مجد الاتحاد السوفيتي السابق، متجاهلين أن الشعب كان يرزح في قيوده، هؤلاء في الحقيقة يتحدثون عن مجد كيان مثالي متخيل هو كيان الوطن أو الدولة، ومن المنطقي وفقاً لهذا المفهوم، والذي فيه تنتمي فيه الجماهير للوطن، أن نعترف أن هناك مجداً حقيقياً لوطن مهاب يمتلك القنابل الذرية والصواريخ العابرة للقارات، ويحق للمنتمين لهذا الوطن أن يستشعروا الفخار والسؤدد، رغم الهوان والقهر الذي يرزحون تحت نيره. . لكن هذا المجد المدعى يصبح هلاوس خالية من المضمون في ظل مفهومنا الجديد للمواطنة، والذي يستبعد الأفكار المثالية والكيانات المتسامية من ساحة العلاقات المادية الحياتية، ليعتمد النهج المادي، الصالح وحدة لتحديد العلاقات بين الحقائق العيانية، العلاقات بين الوطن الحقيقي المادي كمساحة جغرافية وثروات ومأوى ومجال حيوي لسكانه، وبين الإنسان الفرد الموجود هنا والآن، والذي تربطه بالوطن علاقة ملكية، هنا تكون دواعي المجد والعز والحرية، هي ما يعود على الإنسان الفرد بهذه الأوصاف، ويكون الشعب الروسي الآن يعيش عصراً ذهبياً، مقارنة بحياته خلال ثلاثة أرباع قرن مضت، رغم أن دولته لم تعد مرهوبة الجانب، كما لم تعد قوة عظمى أو إمبراطورية اشتراكية ممتدة باتساع الكرة الأرضية.

نفس هذا يقال عن الشعب العراقي، المرشح لأن يتنسم الآن الحرية والمجد الحقيقي، بعد تجاوزه مرحلة الاقتتال الطائفي، بامتلاك مصيره بين يديه، بحكومات ينتخبها للمرة الأولى في تاريخه، رغم أن دبابات قوات التحالف مازالت رابضة على أرضه، لحماية العراقيين من الإرهاب، ومن تدخلات الدول المجاورة المسماة شقيقة. . من يتباكون الآن في أنحاء عالمنا العربي على كرامة العراق وسيادته المهدرة، محقون وفقاً لتصوراتهم العتيقة، فقد ضاعت فعلاً كرامة الصنم المتسامي الذين يتعبدون له، والذي يتصورون أن شعب العراق ينتمي له، سواء تسمى هذا الصنم بمسمى الدولة العراقية، أو رمز له بالقائد الملهم صدام حسين. . لقد سقط فعلاً هذا الصنم بسقوط تماثيل صدام في ميادين المدن العراقية، وضرب بالنعال مع صور صدام، أما العراق العلماني الجديد، فهو عراق آخر، عراق لا يمتلك أحداً ولا ينتمي له أو لحكامه أحد، وإنما هو عراق ملك لكل فرد عراقي، هو وطن جديد ينتمي لشعبه ويتسمى باسمهم، يحققون بامتلاكه ذواتهم وإنسانيتهم.
لا يعني هذا بالطبع عدم الاكتراث باحتلال الوطن من قبل قوى أجنبية، فهي تشكل فعلاً انتقاصاً من سيادة أي شعب كأفراد وبالتالي كمجموع، لكننا في معرض المقارنة بين نقيضين، كمثال لتوضيح الفكرة، نرجح سيادة الفرد الذي هو الأساس، على أي اعتبارت أخرى، يمكن أن تنتقص من حقوق الفرد الحيوية والطبيعية. . نقول هذا رغم أن اليابان وألمانيا غير منتقصتين السيادة، بتواجد القوات الأمريكية على أراضيهما، والقياس طبعاً مع الفارق، المهم من وجهة نظرنا هنا، أن يكون معيار السيادة هو أفراد الشعب، الذي لابد وأن يترتب عليه سيادة الوطن ككل، وليس سيادة الكيان المتسامي المتخيل، على حساب السيادة الحقيقية للشعب.

العلاقات بين أفراد الشعب وطوائفه وأعراقه وأحزابه، علاقات التنافس في الساحة السياسية والاجتماعية بين كافة القوى باختلاف تصنيفاتها، هذه تختلف في المفهوم القديم للوطن، عن المفهوم العلماني الجديد، أي مفهوم انتماء الشعب للوطن أو انتماء الوطن لكل فرد من أفراده، فهي في الأولى علاقة صراع للسيطرة، فكل فئة تسعى بقوتها المادية أو العددية، لكي يتمثل فيها الوطن دون باقي الفئات، لكي تقول كما كان يقول ملوك أوروبا قبل عصر التنوير "أنا الدولة"، وكما تصور أمثال صدام حسين وعبد الناصر، ما دفع السادات لأن يقول أنه "رئيس مسلم لدولة إسلامية"، ويكون والحالة هذه على باقي الفئات الضعيفة أن تحيا تحت جناح الفئة المسيطرة، وأن تقبل ما يقدم لها على سبيل الصدقة أو من قبيل التسامح. . ينعكس ذات المفهوم العتيق على الفئات الأقل قوة، إذ تسعى هي الأخرى إلى الصراع، إن لم يكن للسيطرة، لامتلاك أكبر قدر ممكن من كعكة الوطن، ليتحول الوطن إلى ساحة للصراع والبغضاء والنزاع، بدلاً من أن يكون ساحة للتعاون والتناغم والبناء الحضاري.
أما في المواطنة العلمانية وفق المفهوم الجديد، حيث كل فرد يمتلك الوطن بكامله، فالعلاقات بين الفئات لا تتسم بالصراع، وإنما بالحوار لاكتشاف أفضل السبل لتحقيق الامتلاك الكامل لكل فرد وكل طائفة، والتنسيق حتى لا تتصادم ممارسات الملكية الكاملة لأي فرد أو جماعة، مع حقوق الآخرين في ممارسة ملكيتهم.
ما تقدم بعض الأمثلة بقدر ما أتاح لنا المجال، لما يترتب من اختلاف بل انقلاب، نتيجة للتحول من المفاهيم القديمة، إلى مفاهيم علمانية جديدة، في شتى المجالات الحياة. . حياة جديدة يتسيد فيها الإنسان الفرد، ممتلكاً مصيره بين يديه، ويمتلك وطنه، بل ويمتلك كوكب الأرض كله، ملكاً فردياً خالصاً، لي ولك ولأبنائنا وأحفادنا.

kghobrial@yahoo.com

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٤ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق