متي تثور الشعوب؟ سؤال يلح كلما تحدث المصريون الغاضبون عن باقي الشعب المصري ووصفوه بالخضوع والاستسلام والجبن وغيبة الإرادة.. وكلما تحدثنا عن سلبيات الحكم والحاكمين نجد هذه النغمة المتخاذلة تتجدد ونقرأ أسلوباً يندرج تحت بند جلد الذات والنفس والتاريخ والأصل.. وقديماً أيام حركة يوليو وضع رجال الحركة أيديهم غير البيضاء علي صفحات التاريخ وهات يا عك، وأشهر هذه المعكوكات والتي قام بها للأسف الشديد المؤرخ الرائع عبدالرحمن الرفاعي هي »أسباب فشل ثورة 1919« وكنا نحفظها ونرددها زي البغبغانات والسلام.. ومازالت تزين مناهج التاريخ ومازال الأطفال والصبية والشباب المصري يحفظها ويرددها ويلطعها في ورقة الامتحان وينساها بعد ساعة من نهاية هذه الامتحانات. وكلمة »ثورة« في المختار الصحاح معناها: »تغييرأساسي مفاجيء في الأوضاع السياسية والاجتماعية يقوم به الشعب أو فريق منه في دولة ما«.
وبالطبع يندرج في معني الكلمة »نوع التغيير أو تقييمه وهل هو تغيير للأفضل أو للأسوأ وتترك هذه المهمة للمؤرخين ولكن بشكل عام الثورة معناها تغيير.. وإذا عدنا إلي ثورة 1919 ورصدنا كم التغيير الذي حدث في كيان الشعب المصري والشباب المصري والفلاحين والصعايدة المصريين سنجده هائلاً.. ومن أصعب الأشياء علي التفسير أن تبدأ ثورة 1919 في مظاهرة من مدرسة الحقوق يوم 19 مارس 1919 لتشمل القطر المصري بأجمعه في ظرف أيام وتمتد من بورسعيد ورشيد والإسكندرية وحتي أقاصي الصعيد في الوقت الذي لم تذكر فيه الصحف المصرية كلمة واحدة عن اعتقال سعد زغلول ولم تكن من وسائل اتصال سوي التلغرافات وبعض قليل من التليفونات ويقول الكثيرون من الكتاب أنه كان يوجد ما يسمي بـ»التنظيم السري للثورة«، وأنا شخصياً أزعم أنه وجد بعد عام 1919 وكانت بدايته عندما تم الإفراج عن سعد وذهب إلي باريس وأخذ يراسل الوفديين في القاهرة عن طريق رسائل سرية وكان يتلقاها عبدالرحمن فهمي ويخبر الباقين بفحواها ويرسل الردود وقد قبض عليه عدة مرات ولم يثبت عليه شيء..
وهو بالمناسبة »خال« أحمد وعلي ماهر باشا أشهر أخوين في تاريخ السياسة المصرية.. عموماً كانت ثورة 1919 في مجملها سجلا رائعا للشعب المصري الذي هب ليسطر صورة رائعة للتضحية بالنفس وحب الوطن والاستنارة التي ألقت بظلالها علي الثلاثين عاماً التالية حتي عام 1952. وإذا نظرنا إلي التغيير وهو العنصر الأساسي في تقييم أي حركة ووصفها بالثورة سنجد الآتي: أصدرت الحكومة البريطانية تصريحاً أطلق عليه تصريح 28 فبراير 1922.. يعلن إنهاء الحماية البريطانية علي مصر وإعلان استقلال الدولة المصرية مع أربعة تحفظات خاصة بحقوق وجود القوات الإنجليزية في مصر.. واعتبر الكثيرون هذا التصريح بأنه استقلال ناقص، ولكن الحقيقة أنه بناء عليه تم وضع دستور مصري أطلق عليه »دستور 23« وظل دستوراً للدولة المصرية حتي وقع في أيدي العابثين بعد يوليو وتم إلغاؤه وتم وهم الناس بوضع غيره ثم ألقي به في القمامة حتي جاء دستور السبعينيات، وإذا قورن بدستور 23 سنجد أن الأساس والهيكل وحتي البنود الأولي من »دستور 23«.. المهم.. بناء علي وضع الدستور المصري، تم بناء »البرلمان« الذي شيد أيام الملك فؤاد ملاصقاً لمجلس الشوري الذي شيده الخديو إسماعيل واتحرق من سنة الله يرحم الجميع.. وبناء علي وجود برلمان ودستور وضعت قوانين انتخابية وتمت انتخابات نزيهة نظيفة لأول مرة في تاريخ مصر الحديث عام 1924 واكتسحها الوفد المصري بقيادة سعد زغلول.
يعني الخلاصة أن ثورة 1919 أفرزت نظام حكم نيابيا في مصر »دستور ـ برلمان ـ انتخابات ـ تداول سلطة ـ حرية رأي وفكر« لم يسلم من لسانها سعد زغلول نفسه. ولم تفقد مصر هذه الإنجازات التي دفعت فيها من دماء شبابها الكثير إلا مع عام 1952.. كيف إذن تكون ثورة 1919 ثورة فاشلة؟ الإجابة: تكون ثورة 1919 ثورة فاشلة في كتب التاريخ التي كتبت بعد الثورة الناجحة التي حدثت في عام 1952. وكيف يمكن تقييم ثورة 1952؟.. أولاً وبادئ ذي بدء إطلاق اسم ثورة هو أمر خاطئ منذ البداية وللمتشكك أن يعود إلي صحف العام الأول وسوف يجد أنها »حركة« الضباط لمدة شهور.. ثم »الحركة المباركة« لمدة شهور وهذا التغيير كان من باب مغازلة الإخوان الذين شربوا الطعم وندموا بعد ذلك أشد الندم ثم اطلق واحد ابن حلال علي هذه الحركة نفاقاً ومزايدة منه اسم »ثورة« وشبط الأحرار في اللقب ومازال في كتب التاريخ حتي يومنا هذا.
وإنجازات الثورة الشهيرة بحركة الضباط هي إلغاء الدستور وإلغاء الأحزاب وإلغاء الانتخابات ووضع العسكر في الصحف والرقابة والوزارات والهيئات والمياه والهواء والراجل في البلد يقول »بم«، بينما فتحت المعتقلات والسجون علي مصاريعها لكل من ينوي أن يقول »بم«.. والحمد لله أننا عشنا حتي لحقنا بهذه الأيام، حيث علي الأقل نستطيع أن نتحدث ونقيم ونناقش ما حدث وما يحدث لنا بحرية ومنطق وعقل وإلا الواحد كان مات مقهور. ونعود إلي الموضوع الأساسي الذي حفزني للكتابة عن معني كلمة ثورة.. وهو لماذا يسب بعض المصريين باقي المصريين ويصفونهم بالسلبية والجبن والتخاذل والنفاق.. و.. وفي رأيي لا يستطيع أي شعب في الوجود أن يظل ثائراً علي طول أو عدة شهور أو سنين..
فالثورة لها قدر من الحماس والفوران وطول النفس وإذا حققت ولو جزءا من أسباب قيامها ستكون قد حققت نجاحاً وكفي.. وحتي إذا رجعنا إلي ثورة الجياع أو ثورة الأسعار في السبعينيات سنجد أنها ثورة صغيرة ناجحة فقد أحدثت تغييراً ملموساً وتم إلغاء رفع الأسعار وهذه الواقعة تدل علي ذكاء السادات وإن كان قد اطلق عليها ثورة الحرامية بعد ذلك ولكنه كان علي قدر من الحنكة جعله يستدرك الأمر ويتراجع بلا خجل..
وفي الوقت نفسه، ليست كل المشاكل والأزمات قادرة علي تفجير ثورة.. ويبدو أن سياسة الشد والجذب هي أقدر السياسات علي التنفيس واطلاق البخار أولاً بأول قبل أن تزداد قوته ويحرك العجلة.. وأظن أيضاً أن ثورة الاتصالات والمعلومات والوعي الشامل الذي بإمكاننا أن نستوعبه بنظرة علي العالم من الإنترنت أو الفضائيات جعل القضايا تتسع ولا تكون قاصرة علي ما يحدث لنا فقط، وهذا التشتيت هو ما يبدد طاقة الحماس والانفعال ويوزع قوة الغضب علي أشياء كثيرة فلا تتركز علي أحوالنا فقط إنما تتسع لتشمل غضاب عام وشاملا وهذا العام والشامل ضعيف وخفيض الصوت وهادئ..
ويبدو والله أعلم أن عصر الثورات قد ولي وأننا نعيش الآن عصرا عالميا تصلح وتنجح فيه الانقلابات والحسابات والاتفاقات والتوازنات والقوي الكبري ومصالحها وتنزوي فيه قوة الشعوب وتتواري خجلاً ولا تبقي لها سوي صفحات من التاريخ لم تمتد لها يد العبث.
نقلا عن الوفد
|