لا أتوقف طويلا عند «الفعل»، خاصة عندما يكون غريبا أو خارجا عن المألوف، بل أنشغل على الفور بالتفكير في آليات العقل التي أدت إليه. وفيما يتعلق بتلك المحاولة الإرهابية التي استهدفت اغتيال الأمير محمد بن نايف مسؤول مكافحة الإرهاب في الداخلية السعودية والتي أفاضت الصحافة في نشر تفاصيلها، سنكتشف عنصرا جديدا يتسم بالغرابة وأعلى درجات الفجر في الإجرام، وهو إخفاء المتفجرات داخل جسم الإرهابي المنتحر. لقد حرصت الصحافة في البداية بدافع من الحرج أو الاحتشام على وصف الفعل بأنه تمت (زراعة) العبوة الناسفة داخل جسم المنتحر، ثم اضطرت في النهاية إلى وصف ما حدث بكلمات صحيحة، وهى أنه تم إخفاء العبوة داخل جسمه عن طريق مؤخرته. هي بصمة جديدة إذن للإرهاب تلقي بالمزيد من الأعباء على أجهزة مكافحة الإرهاب، ليس في السعودية وحدها، ولكن في بقية الدول العربية والإسلامية المستهدفة. ترى ماذا كانت آليات العقل التي سبقت التفكير في هذا الفعل عند السادة المخططين.. أقصد استخدام مؤخرة إنسان كأداة لإتمام الجريمة؟
الواقع أن هذا التكنيك سبق استخدامه في جرائم تهريب المخدرات، مادة الهيروين بالتحديد، واستخدمت في ذلك أنابيب مطاطية أو من الألومنيوم الخفيف، وهو تكنيك معروف أيضا في السجون لإخفاء الممنوعات عند بعض عتاة المجرمين. في حالة المخدرات كان من السهل التعامل مع هذه الوسيلة الجديدة وكشفها بوسائل عديدة، أما في حالة استخدامه في إخفاء عبوة ناسفة فهو ما يحتم الوصول إلى أساليب علمية وأمنية جديدة لكشف المنتحر على بعد كاف لمنعه من الاقتراب من الهدف.
لقد قرأت جيدا كل تفاصيل الواقعة بما فيها تلك المحادثة التليفونية التي دارت بين الأمير محمد بن نايف والإرهابي المنتحر التي استخدمتها قيادته كطعم لضمان الوصول إلى الهدف وملخصها: «أنا نادم.. أنا تائب.. زملائي هنا لهم نفس الموقف.. أريد أن أسلم نفسي لك.. أريد أن أقابلك.. أريد أن أتكلم مع سموك».
الإرهابي التعس وقيادته الإرهابية واثقون من صلاحية الطعم، ومن أن القيادة الأمنية الكبيرة بدافع من الكرم الإنساني سيرحب بمقابلته في بيته، كان ذلك خطأ أمنيا كبيرا وشائعا أيضا، سأتحدث حالا عن الفكرة السائدة التي تسببت في حدوثه، الواقع أنه من وجهة نظر احترافية هناك جيش جرار من العاملين في مكافحة الإرهاب لا يعرف أحدا، ولا يجب أن يعرف أحد أسماءهم، وعلى من يريد التوبة أن يذهب إليهم في مكاتبهم عبر إجراءات هم يعرفونها جيدا.
هناك افتراض سائد عند عدد كبير من رجال الدولة في مصر والسعودية، بالإضافة لعدد أكبر من المثقفين، أن هؤلاء الناس من أصحاب الأفكار الضالة، لقد ضللهم زعماؤهم وعلينا إزالة هذا الضلال من عقولهم وإمدادهم بأفكار خيّرة بديلة لتحل محل الشر الذي يسكن عقولهم، عندها يكفون عن ارتكاب الجرائم. الواقع أنهم ليسوا من أصحاب الأفكار الضالة بل النفوس الضالة، والفرق بينهما كبير. هم أصحاب نفوس خربة تم تخريبها على مدى سنوات طويلة. أعترف بأن هناك بينهم من هم أصحاب نفوس لم يتم شحنها كلية بالشر، وأنه يمكن إيقاظ الضمير العام عندهم وإعادتهم إلى حظيرة الإنسانية، غير أنه على الجميع الاعتراف بأن الشر أيضا له عبقريته الخاصة في تحقيق أهدافه. هناك ميل عند المثقفين لاعتبار الشر قرينا للغباء، الواقع أن له ذكاءه الخاص. هناك أشرار أغبياء بالطبع، غير أن قيادات الإرهاب لا تصل إلى مواقعها بغير مؤهلات عليا وخبرات ميدانية أكيدة في عبقرية الشر. وإذا كنت أرصد شيئا جديدا في هذه الواقعة، فهو أن استخدام مؤخرات البشر في ممارسة الإرهاب ليس إلا امتدادا طبيعيا لطريقتهم في التفكير. لم يعد الرأس هو منبع التفكير عند هؤلاء البشر، وهو ما يصور مدى الانحطاط الذي وصلوا إليه.
نحن عاجزون عن استعادتهم أو حمايتهم من زعمائهم أو من أنفسهم، غير أننا نستطيع حماية أطفالنا من كل ما يلقى على أسماعهم وأنظارهم من فضلات الأفكار الضالة لكي لا يتحولوا بعد أعوام قليلة إلى تعساء انتحاريين. يجب أن نطلب المساعدة من كل شيوخنا الأجلاء ودعاتنا الأفاضل. نريد منهم تفسيرا عصريا لمعنى الجهاد في سبيل الله.. أتساءل: أليس من الأوفق أن نشرح للأطفال وبسطاء العقول أن الجهاد هو التحصيل العلمي والتفوق في الزراعة والصناعة والتجارة وسجل حقوق الإنسان وارتفاع مستوى معيشة الناس وتحقيق حد أدنى من الرفاهية لهم؟ أليس من الأفضل أن نشرح لهم أن كل البشر من كل الأديان والأعراق لهم نفس الحقوق، وأنهم لا يعيشون وحدهم على ظهر الأرض، وأن هناك شعوبا أخرى عليهم أن يعرفوها ويتعرفوا عليها وأن يحترموا القانون والأعراف في أي مكان في هذا العالم؟ إذا لم نحفز الناس على التفكير بعقولهم مع تنمية قدراتهم العقلية النقدية، إذا لم نقم بحماية أصحاب الإبداع الفني والأفكار المستنيرة، إذا لم نعترف للمرأة بحقوقها ونخوض معركة من أجل ذلك، ولتكن خسائرها ما تكون، هل يحق لنا بعد ذلك الشكوى من ظهور جيل امتلأت أحشاؤه بالعبوات الناسفة؟
* نقلاً عن الشرق الأوسط |