بقلم: د. عبد الخالق حسين
ليس في أية دولة من دول العالم مجلس رئاسي معيق للديمقراطية وشل نشاط الحكومة مثل مجلس الرئاسة في عراق ما بعد صدام. تتألف هذه الهيئة من السيد جلال طالباني (كردي) رئيساً للجمهورية، ونائبيه، الدكتور عادل عبدالمهدي (عربي شيعي)، والدكتور طارق الهاشمي (عربي سني). الفرضية التي أود مناقشتها في هذا المقال أن أضرار هذا المجلس أكثر من نفعه: أولاً، لأنه بتشكيلته هذه وصلاحياته الواسعة وفق الدستور، صار يشكل عقبة كأداء أمام تفعيل الديمقراطية الوليدة ونموها، ثانياً، وكما تبين من بيانه الأخير حول الأزمة السورية- العراقية، أنه يشل نشاط الحكومة في دحر الإرهاب ونشاطاته الأخرى، وثالثاً، يشكل هذا المجلس عبئاً مالياً ثقيلاً على ميزانية الدولة دون أي نفع.
والجدير بالذكر، أن مجلس الرئاسة الثلاثي هذا ليس جديداً في العراق، فهو على غرار مجلس السيادة الذي تشكل في الجمهورية الأولى، جمهورية 14 تموز 1958، والذي كان ثلاثياً أيضاً ليمثل المكونات الكبرى للشعب العراقي، حيث تألف من: نجيب الربيعي (عربي سني)، محمد مهدي كبة (عربي شيعي)، وخالد النقشبندي (كردي). ولكن الفرق بين المجلسين هو أن مجلس السيادة كان شرفياً فقط، رغم أن أعضاءه كانوا يتمتعون بحق حضور جلسات مجلس الوزراء والتصويت على قراراته، ولكن دون التمتع بحق النقض (فيتو) على قرارات الحكومة ورئيسها التنفيذي الزعيم عبدالكريم قاسم. ولم يشكلوا عبئاً تقيلاً على خزينة الدولة. أما المجلس الرئاسي الحالي فهو يتمتع بالصلاحيات الواسعة بما فيها حق النقض لأي عضو من أعضائه لقرارات الحكومة، ونقض أي قانون يصوت عليه البرلمان، الأمر الذي يفرغ الديمقراطية من مضمونها، كما ويشل الحكومة في عملها. كذلك صار هذا المجلس يشكل عبئاً ثقيلاً على خزينة الدولة، إذ لكل من الأعضاء مكتب ضخم وعدد كبير من الموظفين والمستشارين بلا عمل يذكر، إضافة إلى فوج كامل من الحماية لكل عضو، وهذه الحماية لم تكتف بالرواتب الضخمة التي تصرف لهم، بل راح البعض منهم يستغل إمكانيته للسطو على بنوك الدولة ونهبها وقتل حراسها.
والمشكلة هنا أن هذه الصلاحية الواسعة للمجلس الرئاسي، مسندة من قبل الدستور العراقي الدائم والذي هو الآخر يعمل في الكثير من مواده على شل الديمقراطية، ولا يمكن تعديله على الإطلاق تقريباً، إلا بتغيير جذري للوضع العراقي الراهن.
أما دور المجلس في إدامة الإرهاب فيمكن توضيحه بالتالي. لا يمكن تنفيذ حكم الإعدام بحق الإرهابيين إلا بموافقة جميع أعضاء هيئة الرئاسة دون استثناء، أو عدم رفض أي عضو على الأقل. ونحن نعلم أن المحاكم الجنائية لحد الآن قد أصدرت أحكاماً بالإعدام بحق المئات من المجرمين الجنائيين والإرهابيين، من القتلة البعثيين والتكفيريين وعصابات الجريمة المنظمة. ولكن رفض هذا العضو أو ذاك من أعضاء مجلس الرئاسة التوقيع على قرار الحكم، أحال دون تنفيذ هذه الأحكام. وبذلك فقد أمَّنَ الإرهابي على حياته، وصار عبئاً على الدولة لمعيشته مدى الحياة، كما وشجع هذا الموقف، الإرهابي المحتمل على الانخراط في منظمات الإرهاب وممارسته دون خوف رادع طالما هناك في مجلس الرئاسة من يحميه من تنفيذ حكم الإعدام. ورغم أني لست من المتحمسين لتنفيذ عقوبة الإعدام، لأن الإعدام في رأيي هو أخف من عقوبة السجن مدى الحياة، ولكن في هذه المرحلة العاصفة من تاريخ بلادنا التي أصبحت مرتعاً للإرهابيين، يجب ممارسة هذه العقوبة كأداة ردع، لأن معظم المجرمين المحتملين يخافون من عقوبة الإعدام أكثر من السجن.
ولذلك فإن أعضاء مجلس الرئاسة يلعبون دوراً فعالاً في إدامة الإرهاب في العراق من حيث يدرون أو لا يدرون، بقصد أو بدونه. فالرئيس جلال طالباني أعلن منذ تسلمه رئاسة الجمهورية أنه قطع عهداً على نفسه أن لا يصادق على أي حكم بالإعدام. والدكتور طارق الهاشمي يرفض تنفيذ حكم الإعدام بالإرهابيين البعثيين والتكفيريين. أما عادل عبد المهدي فلا نعرف موقفه من هذا الأمر، ولكننا نعرف موقفه في مغازلة النظامين السوري والإيراني على حساب الشعب العراقي كما ظهر في البيان الرئاسي الأخير السيئ الصيت.
لقد انتقد مجلس الرئاسة في بيانه "العتيد" السيد نوري المالكي لقراره بمطالبة النظام السوري تسليم المخططين للإرهاب من المقيمين في سوريا، ومطالبة الأمم المتحدة بتشكيل محكمة جنائية للنظر في هذه القضية. علماً بأن المجلس اعترف في بيانه أن "الدعوة لاعتبار العمليات الإرهابية جرائم ضد الإنسانية وتشكيل محكمة دولية لهذا الغرض لا تقصد به سوريا بل ملف الإرهاب" ولكن مع كل هذا، وبدلاً من أن يقف مجلس الرئاسة إلى جانب رئيس الوزراء ودعمه في مساعيه، راح المجلس يلقي اللوم في تصعيد الأزمة العراقية- السورية على كاهل السيد نوري المالكي، مطالباً إياه التخفيف من حدة التوتر مع سورية، وأن أي نزاع دبلوماسي بين البلدين يجب أن يحل بالحوار. (وهل رفض المالكي ضد الحوار؟!!)، وقال انه بعث برسالة إلى نوري المالكي لتذكيره بأنه لا بد من الرجوع إلى المجلس فيما يتعلق بجميع القرارات السياسية الكبيرة.
والسؤال هو: من الذي أشعل فتيل الأزمة بين البلدين، هل هو المالكي أم بشار الأسد؟ فكل ما فعله المالكي أنه سلَّم الأسد إثناء زيارته لدمشق، قائمة بأسماء المطلوبين من المتهمين بالإرهاب المقيمين في سوريا، وبعد الأربعاء الدامي تبين من اعتراف أحد المنفذين أن إثنين من المخططين للجريمة هما في سوريا، فطالب بتسليمهما للعراق. فما كان من الرئيس السوري إلا وأن يصف هذا الطلب بأنه تهمة "لا أخلاقية"، واعتبر الاتهام الموجه لهؤلاء البعثيين والتكفيريين بمثابة اتهام لسوريا، ومن هنا بدأت الأزمة وعمل النظام السوري على تصعيدها. فما ذنب المالكي في كل ذلك؟
لذلك، وبدلاً من دعم رئيس الوزراء السيد نوري المالكي، والتنديد بالإرهاب وسلوك النظام السوري الذي يحتضن الإرهاب ويرعاه، راح مجلس الرئاسة في بيانه ينتقد المالكي على مواقفه الشجاعة وإجراءاته الصائبة ضد الإرهاب، وإلقاء اللوم عليه في الأزمة العراقية - السورية، بدلاً من إلقائه على المسبب الحقيقي لهذه الأزمة وتصعيدها، أي بشار الأسد. هذا البيان فيه الكثير من النفاق والتزلف والتنازلات إلى النظام السوري على حساب أمن وكرامة العراق. ولا شك أن هذا الموقف لا يتسم بالحكمة، ولا يخدم القضية العراقية، بل يدعم الموقف السوري ويضعف الموقف العراقي، وطعنة في الصميم له، ويظهر القادة العراقيين متصارعين فيما بينهم. فالمفروض عندما تتعرض الدولة إلى أزمة أن تكون قيادته السياسية، الحاكمة والمعارضة، تقف صفاً واحداً متماسكاً دفاعاً عن العراق. ولكن الذي يحصل أن ليس قادة الأحزاب المعارضة فقط يقفون ضد الحكومة ورئيسها فحسب بل وحتى أعضاء المجلس الرئاسي، فهؤلاء، من جهة ينتقدون المالكي لأنه لم يدحر الإرهاب نهائياً، وفي نفس الوقت يكبلون يديه ويمنعونه من اتخاذ الإجراءات اللازمة لدحر الإرهاب، بل ويقفون ضده. وموقفهم هذا يشبه ما فعل بنو إسرائيل حين قالوا لنبيهم موسى: "... اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ". وليت المجلس الرئاسي اكتفى بالقعود على التل فقط، بل صار عقبة كأداء أمام المالكي في حربه على الإرهاب.
ونفس الموقف المعارض لإجراءات الحكومة اتخذته بعض قادة القوى السياسية والبرلمانيين، في إلقاء اللوم على الحكومة وتبرئة البعثيين والتكفيريين من مجزرة الأربعاء الدامي، سعياً منهم في تشويه صورة المالكي كتمهيد لإسقاطه وإعادة حكم البعث الفاشي.
ربَّ ضارة نافعة
نؤكد للسادة أعضاء مجلس الرئاسة أن بيانهم هذا أنتج مردوداً على الضد مما أرادوا منه، إذ صار وبالاً عليهم وعلى مجلسهم. فالشعب العراقي، ورغم ما تعرض إليه من تخريب ثقافي خلال أربعين عاماً من حكم الفاشية، إلا إنه تعلم بسرعة، فأدرك الغاية المريبة من وراء هذا البيان بأنه بيان انتهازي يخدم أعداء العراق من الإرهابيين ومن يرعاهم من دول الجوار، وخاصة إيران وسوريا. فكان قصد نائبي الرئيس، طارق الهاشمي وعادل عبدالمهدي الذي يحلم برئاسة الوزارة، هو إضعاف موقف المالكي والنيل منه لأغراض انتخابية. أما السيد جلال طالباني، فيبدو أنه وقع في الفخ الذي نصبه له نائباه، فاستجاب لطلباتهما لأنه يريد إرضاء الجميع. ونؤكد له، ورغم خبرته السياسية الطويلة، أن من يحاول إرضاء الجميع، وخاصة في السياسة، فإنه يخسر الجميع. إذ كان على طالباني أن يكبح جماح نائبيه ويقدم لهما النصح، ويدعم موقف المالكي لا أن يخذله في الملمات. ولذلك نؤكد للسادة أعضاء مجلس الرئاسة أنهم بموقفهم المتخاذل هذا فقد قدموا خدمة جليلة إلى السيد المالكي من حيث لا يشعرون وذلك وفق مقولة: (ربَّ ضارة نافعة!!)، حيث أدرك الرأي العام العراقي الغاية السيئة من هذه اللعبة الخبيثة، فصار متعاطفاً مع المالكي، وغاضباً على مجلس الرئاسة بسبب هذا البيان البائس.
لماذا يجب دعم المالكي؟
يجب دعم المالكي لأن العراق يمر الآن في مرحلة تاريخية عاصفة وحرجة جداً لا يتحمل إثارة مثل هذه الخلافات بين مجلس الرئاسة والحكومة، بل يتطلب الوحدة والتماسك وخاصة بين المسؤولين الكبار في الحكومة. فالقضية هنا ليست قضية السيد نوري المالكي كي نتركه وحده يصارع الإرهاب العالمي المدعوم من قبل دول الجوار، بل نحن أمام قضية تخص أمن وسلامة ومستقبل العراق، إنها قضية حياة أو موت الشعب العراقي الذي يواجه حرب الإبادة. لقد تكالبت دول الجوار على العراق، وتسعى بكل الوسائل الخبيثة لإفشال تجربته الديمقراطية وحرمان شعبه من الأمن والاستقرار. وفي هذه الحالة من العيب والخزي على كل من يتخذ موقفاً انتهازياً ضد رئيس الحكومة وهو في أوج صراعه مع الإرهاب والدول التي ترعى الإرهاب.
لذلك، فالواجب الوطني يحتِّم على جميع المخلصين العراقيين، إسلاميين وعلمانيين، ترك خلافاتهم السياسية والعقائدية والمصالح الشخصية والفئوية جانباً، ودعم السيد المالكي وحكومته الوطنية المنتخبة في معركتهما الشرسة ضد الإرهاب. المالكي يستحق الدعم لأنه أثبت خلال أكثر من ثلاث سنوات من استلامه مسؤولية الحكومة، أنه زعيم وطني عراقي نزيه ومخلص للشعب، وفوق الحزبية والطائفية. أما وأن يدعي سياسي أو كاتب علماني بأن يجب الوقوف ضد المالكي لأنه إسلامي، فهذا خطأ قاتل ودليل على قصر نظر ومراهقة فكرية وسياسية. إن المرحلة الراهنة، شئنا أم أبينا، هي مرحلة هيمنة الأحزاب الإسلامية، ليس في العراق فحسب، بل وفي الكثير من دول منطقة الشرق الأوسط، وذلك لأسباب ذكرناها مراراً في مقالات سابقة. يجب دعم المالكي لأن البديل عنه هو إسلامي متطرف لا يختلف عن حكم طالبان في أفغانستان، سواءً بنسخة وهابية أو شيعية. بينما حزب الدعوة الذي ينتمي إليه المالكي، هو حزب معتدل يؤمن بالتسامح والديمقراطية، وينبذ حكم ولاية الفقيه الإيرانية، ويرفض فرض الدين بالإكراه على الناس. كما وعارض المالكي تدخل أية دولة من دول الجوار، بما فيها إيران، في الشأن العراقي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان الإلكتروني: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب:
http://www.abdulkhaliqhussein.com/ |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|