بلغت الرهبنة القبطية أوج عظمتها وإنتشارها وتأثيرها فى كثير من بلاد العالم فى أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الميلاديين- ما كان له أكبر الأثر فى سعى الناس إلى تحقيق المُثُل العليا لروح العصر السابق وهو عصر الإستشهاد، غير أن السبيل إلى تحقيق هذه المُثُل لم يعد وقتذاك فى صورة الإستشهاد بل أضحى فى صورة إماتة الشهوات فى وسط بيئة روحية نظمت للوصول إلى نوع من الكمال الإنسانى أنكر فيه الفرد ذاته دون أن يفقدها كما ظن البعض- وما لذلك من دواعى الرقى والنهضة والمدنية.
لم تقتصر آثار الرهبنة القبطية على المسيحية فى مصر بل تعدّتها إلى خارجها، حيث انتشرت رهبانية من هذا النوع فى بعض بلاد الغرب والشرق- وإن اتخذت هناك أشكالاً خاصة حسب ظروف البيئة التى نشأت بها أو نُقلت إليها.. وفى هذه الأماكن الجديدة أخذ الرهبان على عاتقهم نشر المسيحية وحماية مدنية وثقافة تلك العصور من أن تطمسها أيدى المتبربرين.
فى أوربا:
فرنسا
أول أثر من آثار الرهبانية القبطية فى الغرب يرجع فيما يبدو إلى البابا أثناسيوس الرسولى البطريرك العشرين فى عداد بطاركة الأسكندرية، حيث ذهب إلى أوربا مرتين أولهما فى مدة إقصائه الأولى عن كرسيه بين عامى 335 و338م حيث قضى هذه السنوات فى مدينة تريف (على شاطئ نهر الموزل بفرنسا) وهناك سطر بعضاً من أخبار الرهبان المصريين وخاصة حياة القديس أنطونيوس أب الرهبنة- والذى كتب سيرته كاملة عام 357م أى بعد نياحته بقليل.. ولذلك فإن قيام رهبانية غاليا (فرنسا) يرتبط بهذه الحادثة، إذ أن القديس مارتن أسقف مدينة تور مارس الحياة الرهبانية على النحو الذى عرفه من أثناسيوس ثم أنه أسس جماعة رهبانية حوالى عام 362م على مقربة من بواتييه وأتبعها بأخرى على مقربة من تور بعد أن صار أسقفاً لها عام 372م، ويقال أن عدد رهبان الجماعة الأخيرة بلغ نحو ثمانين راهباً قضوا حياتهم فى صلوات طويلة وأصوام قاسية وعاشوا فى طراز رهبانى جمع بين الإنفراد والشركة إذ سكنوا كهوفاً وأكواخاً ولم يجتمعوا إلا للطعام والصلاة فى الكنيسة- وهى صورة لرهبانية وادى النطرون وغيرها من أماكن التجمعات الرهبانية بمصر.
على أن الرهبنة الأنطونية ورهبانية وادى النطرون قد إنعكست صورتها فى إقليم بروفانس بجنوب غاليا، وذلك بعد أن حمل نُظُمها إلى هناك يوحنا كاسيان Cassian والذى نقل كل التراث القبطى من تعاليم وصلوات وتسابيح إلى الغرب- والذى تسلمها من بعده القديس بندكتوس فجعلها أساس لنظام الرهبنة فى ديره وجعل من كتابه "المحادثات" كتاب القراءة اليومية لكافة الرهبان الخاضعين لنظامه، فكان لكتابات كاسيان أكبر الأثر فى تقليد أهل غاليا لحياة رهبان مصر- مع إختلافات طفيفة فى الملابس والنظام اليومى إقتضتها ظروف المناخ والبيئة التى عاشوا فيها.
ظلت الرهبانية والديرية فى أوربا متخذة أشكالاً مختلفة، ولم تستقر على حال حتى إتخذت طابعاً ديرياً خاصاً على يد القديس بندكتوس فى القرن السادس الميلادى.. عاش بندكت حياة رهبانية فى كهف فى Subiaco على بعد 40 ميل من روما واجتمع حوله بعض الرهبان، ثم إعتزلهم إلى مونت كاسينو عام 520م ليضع قانونه الجديد والذى أصبح قانون الديرية فى أوربا كلها وميّز فيه بين الديريين والرهبان المتوحدين.. ويبدو أن بندكت لم يعجب بما كان فى النظم الرهبانية المصرية من تنافس بين الرهبان فى الحياة النسكية، فرأى أن ينظم جماعته تحت قانون عام مشترك قام على تنفيذه رئيس، ولم يكن هذا القانون قاسياً بل كان "قانوناً صغيراً للبادئين" A Little Rule For Beginners - على حد قوله- وبما يناسب الظروف الغربية، غير أنه لم يخرج على القواعد الرئيسية للحياة الرهبانية والديرية وهى الفقر الإختيارى والتواضع والطاعة، حتى أنه أمر بعدم مغادرة الراهب لديره طيلة حياته إلا بإذن من رئيسه.. كما أنه أقام للراهبات والعذارى أديرة خاصة بهن ونظم حياتهن كذلك وفق قانون، وقد أدارت أخته سكولستيكا Scholastica أول ديراً منها.. وظلت قوانين بندكت الحجر الأساسى الذى شُيِّدَت عليها النُظُم الديرية التى أعقبتها بأوربا.. وبلغ من تأثير هذا القانون فى مدنية العصور الوسطى فى أوربا أنه أصبح عاملأ قوياً فى نشر المسيحية بين المتبربرين فى تلك العصور، فحيثما إنتشر قانون بندكت تغيّر وجه المجتمع والإقليم تغيّراً هاماً، فإجتُثَّت مساحات كبيرة من الغابات وجُفِّفَت المستنقعات وبُنِيَت المدارس والمستشفيات والملاجئ فى داخل الأديرة أو أُلحِقت بها، وأصبحت الأديرة فضلاً عن هذا مراكز لأعمال التبشير بالمسيحية فى البلاد الوثنية، كما أضحت مجمعاً للفنون والعلوم والحِرَف والصناعات.
إيطاليا
ذهب البابا أثناسيوس للمرة الثانية إلى أوربا فى فترة إقصائه عن كرسيه بين عامى 340 و 349م، إذ ذهب إلى روما بصحبة راهبين من رهبان وادى النطرون هما أمونيوس (أحد الإخوة الطويلى القامة) وإسيذوروس (المشرف على بيت الضيافة البطريركية)، وعمل ثلاثتهم على نشر أخبار الأنبا أنطونيوس وطريقة الحياة الرهبانية فى مصر.. وأقام أثناسيوس ومن معه من الرهبان فى منزل أرملة مسيحية تدعى مارسِلا حيث دعا فى أحاديثه الكثيرة عن الأرامل والعذارى فى مصر إلى حياة الرهبانية النسائية، وقامت بيوتاً للراهبات والعذارى فى روما كانت بداية لإنتشار أديرة النساء- حيث وضعت مارسلا نواة هذه الحياة فاجتذبت إليها الكثيرات ومنهن بعض نساء الطبقة الراقية اللائى بِعن حلّيهن وأمتعتهن وقدَّمن أثمانها لمؤسسى الرهبانية ثم إنخرطن فى الحياة النسكية.
وأحد مؤسسى حياة الرهبانية فى إيطاليا هو الراهب أمبروز الذى أصبح فيما بعد أسقفاً لميلان له من النفوذ ما فاق الأباطرة أنفسهم.. ويبدو أن رسامتة الراهب قساً قبل رحيله مع أثناسيوس جعل من الرهبانية التى كونها أمبروسيوس تجمع بين الحياة الرهبانية ووظائف الإكليروس إذ جعل من قسيسيه جماعة تعيش حياة نسكية وفق تنظيم رهبانى- وسار على نهجه يوزيب أسقف فرساى بفرنسا فى النصف الثاتى من القرن الرابع.. ولم يكد القرن الرابع الميلادى يشرف على نهايته حتى امتلأت جهات كثيرة من إيطاليا وجزر البحر التيرانى بالجماعات الرهبانية.
أيرلندا وأسبانيا
وليس هذا هو كل ما أحدثه الرهبان المصريون فى أوربا، فقد إنتقلت الرهبانية إلى كل من أيرلندا وأسبانيا- ومع بقاء المعلومات عن مؤسسيها فى كل منها غامضة إلا أن دليلاً فى كل منها يشير إلى إنتشار الرهبانية بها فى القرن الرابع الميلادى.. ففى أسبانيا يقوم هذا الدليل على وجود سبعة مقابر لرهبان مصريين وصلوا فى رحلاتهم التبشيرية إلى هناك- بالإضافة إلى ذكر القديس باتريك شفيع أيرلندا.. وفى أسبانيا يقوم القانون الذى أصدره مجمع سرقسطة عام 380م دليلاً على إنتشار الرهبانية فى أسبانيا- وفى هذا القانون حُرِّم على الإكليروس أن يصيروا رهباناً.
دور الرحالة الأجانب فى نشر الرهبنة القبطية
من آثار رهبانية مصر ووادى النطرون على وجه الخصوص ما جاء على أيدى بعض الرحّالة الأجانب الذين زاروا مصر فى القرن الرابع الميلادى ليشهدوا فى بلادهم عن كثب بما عرفوه عن هذه الحياة التى عاشها الرهبان الأقباط، فساهموا فى نشر الرهبانية بعد أن تأثروا بها، ومن أشهر هؤلاء الرحّالة :
كاسيان Cassian
زار القديس يوحنا كاسيان صحراء نتريا والإسقيط حوالى عام 385م ومكث فى مصر حوالى خمس سنوات حيث تتلمذ تلمذة نسكية حقيقية لآباء مصر العظام- حتى قال عنه المؤرخ جناديوس أنه "مواطن إسقيطى"، ثم ترك مصر مع رفيقه جرمانوس ليزور فلسطين ثم القسطنطينية حيث رسمه القديس يوحنا ذهبى الفم شماساً ورسم جرمانوس كاهناً، وأرسله ذهبى الفم للدفاع عنه أمام أعدائه فى روما ثم عاد بعد نياحته إلى غالا أى فرنسا (مسقط رأسه على وجه الترجيح) حيث رُسم قساً ثم أسس ديرين على مقربة من مارسيليا..
وترك لنا القديس يوحنا كاسيان ذخيرة طيبة سجل فيها مشاهداته وأحاديث من سمعهم من رهبان.. فكتب خلال الأعوام 420- 430م تقريباً مجموعة "الأنظمة" أو "المؤسسات" Institutes فى إثنى عشر كتيباً (تحدث فى الأربعة الأولى عن عادات ورهبان وديرى مصر وسوريا كما أشار إلى "القوانين الرهبانية" وناقش وسائل التغلب على ثمانية معوقات رئيسية تواجه الراهب فى سعيه نحو الكمال)- ويعتبر هذ الكتاب أساساً لكثير من القوانين الرهبانية فى الغرب، وكتب أيضاً مجموعة "المحادثات" أو "المناظرات" Conferences فى أربعة وعشرين محادثة مع الآباء الرهبان (واختص العشرة الأولى بمحادثات مع رهبان الإسقيط)- غير أنه تنيح قبل أن يكمل تسجيل محادثاته.. وإمتازت كتابات كاسيان بالتبويب والترتيب.
بلاديوس Palladius
ولد بلاديوس فى غلاطية حوالى عام 363م وترهب بفلسطين ومكث هناك ثلاث سنوات زار بعدها الأسكندرية حوالى عام 388م وهناك قابل إسيذوروس الراهب المشرف على بيت الضيافة البطريركية- وبإرشاده مارس الرهبانية المصرية مع راهب يدعى دوروثيئوس كان يعيش فى كهف على مقربة من الأسكندرية.. غير أن إعجاب بلاديوس بما سمعه عن رهبان نتريا والإسقيط دفعه إلى زيارة نتريا حوالى عام 390م وبعد أن قضى فيها سنة إنتقل منها إلى سليا (منطقة القلالى) حيث عاش فيها حوالى ثمانى سنوات نعم فى واحدة منها -على حد قوله- بعشرة القديس مكاريوس الأسكندرى الذى تنيح عام 394م فإنضم بلاديوس لإيفاجريوس Evagrius مقيماً بمنطقة القلالى، وتنقل من نتريا إلى الإسقيط وتحدث مع رهبانه ونقل عنهم أحاديثهم وعاداتهم، ثم عاد إلى الأسكندرية عام 400م بعد أن زار يعضاً من الأديرة والجماعات الرهبانية بالوجه القبلى وزار القديس يوحنا الأسيوطى الذى تنبأ له بأنه سيصير أسقفاً، ثم رحل إلى فلسطين حيث تعرّف بالقديس جيروم وأقام معه فى أحد الأديرة مدة، ثم ذهب إلى بيثينية حيث رُسم أسقفاً على هلينوبوليس عام 400م، ثم ذهب إلى القسطنطينية لزيارة القديس يوحنا فم الذهب وظل مرافقاً له خمس سنوات، وبسبب ذلك نُفى إلى أسوان عام 306م فى فترة إضطهاد فم الذهب وبقى فى منفاه بصعيد مصر حتى عام 412م متنقلاً بين أسوان وأنتينوا (أنصنا وهى الآن الشيخ عبادى بملوى) عاد بعدها إلى غلاطية.. غير أن نفى بلاديوس عاد بالخير على التاريخ إذ عكف على إخراج مؤلفه المعروف بـ "الفردوس" أو "بستان الرهبان" والذى ربما قد أتمه عام 420م ، وحوى هذا الكتاب الذى تعددت نسخه تاريخاً هاماً للرهبانية فى مصر وشخصياتها ونُظُمها وقوانينها وأقوال الرهبان وأحاديثهم، ولهذا المؤلَّف أكبر الأثر فى تعرّف العالم المتمدين آنذاك على ما كان بمصر من نظم وتعاليم رهبانية وديرية ثم صار له أكبر الأثر على مر العصور فى التعريف بأصول الحياة الرهبانية- حيث درج الرهبان على قراءته وفهم معانيه وعقد المناقشات حول ما جاء به من تعاليم.
روفينوس Rufinus
كان روفينوس قساً فى أكويليا Aquilia بشمال إيطاليا ورحل إلى الشرق حوالى عام 371م وزار مصر وقضى حوالى سنتين فى وادى النطرون تتلمذ فيها على يدى القديسين مكاريوس الكبير ومكاريوس الأسكندرى وإسيذوروس وبامو، وجاءت مصر بصحبة روفينوس ميلانيا الأسبانية الأرملة الثرية والتى تقابلت معه فى روما واتجهت معه إلى مصر حيث مكثت ستة أشهر بالأسكندرية ثم إنحدرت إلى شيهيت وقامت ببناء كنيسة لإسيذوروس القس - وهى إحدى كنائس دير البراموس الآن، ثم ترك روفينوس وادى النطرون إلى فلسطين نتيجة إحدى موجات الإضطهاد الأريوسى.. وكانت زيارته لمصر ذات أثر بعيد المدى على مسيحيى الغرب حيث كتب تاريخه عن رهبان مصر وهو المعروف بـ "هيستوريا موناخورم"، كما أنه أول من ترجم كل التراث القبطى والشرقى من اللغة اليونانية إلى اللغة اللاتينية.
جيروم Jerome
ولد القديس جيروم فى ستريدو بسوريا وتلقى علومه فى روما ثم سافر إلى غالا (فرنسا) قبل أن يكرس حياته للعيشة النسكية مع أصدقاء له فى أكويليا، ثم إنطلق إلى فلسطين عام 374م ثم توحّد فى خالكى بصحراء سوريا لمدة تتراوح من أربعة إلى خمسة أعوام عاد بعدها إلى أنطاكية حيث رُسم كاهناً ومنها سافر إلى القسطنطينية ثم روما حيث قضى فيها من عام 382 وحتى 385 بصفة سكرتير للبابا داماسوس ومدرس للنسك، ثم زار أنطاكية ومصر وفلسطين واستقر أخيراً فى بيت لحم عام 386م حيث أشرف على دير للرجال وكرّس بقية حياته للدراسة والبحث.. فكانت زيارة جيروم لمصر فى أواخر القرن الرابع الميلادى بصحبة الراهبة الرومانية بولا (باولا) حوالى عام 385م، ومكث الإثنان مدة فى وادى النطرون ثم تركاه إلى فلسطين حيث أسست بولا ديراً من مالها الخاص.. وأعتبر جيروم حلقة من حلقات الإتصال بين الشرق والغرب، إذ قام بنقل ما عرفه عن نُظُم القديس باخوميوس أب الشركة حوالى عام 404م إلى اللاتينية وإعتبرها آخر مرحلة منظِّمة للحياة الرهبانية، كما كتب قانوناً للراهبات بعث به إلى الراهبة مرسلا فى قصرها بروما حيث إمتلأ بالعذارى، كما كتب سيرة الأنبا بولا أول السواح عام 374م.
الي الجزء الثاتي |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|