CET 00:00:00 - 01/09/2009

مساحة رأي

بقلم: نبيل شرف الدين
في الطريق الضيق الممتد حتى نهاية البصر صعودا بالسائرين فيه، تعلمت مبادئ "التسكع الحميد"، الذي يمنح المرء فرصة الاقتراب من الأماكن والأشخاص والأشياء، وتأملها بقدر كافٍ من الوعي والدهشة، لترسخ بعدها في مخزونه الوجداني فلا يمحوها الزمن.

"الدرب القبلي".. هكذا كانوا يسمون ذلك الطريق أبناء قرية "سربو"، التابعة لمركز "سمسطا"، أقصى جنوب غرب محافظة بني سويف، وهي كما ترى من فرط غرائبية الأسماء ذات الجرس "القبطي ـ الفرعوني"، ترسخ اليقين لديك بأنها حواضر موغلة في القدم.. تضرب بجذورها في قلب الزمان والمكان.
في رمضان من كل عام، ومنذ كنت دون العاشرة من عمري، كنت أقطع ذلك الدرب سيراً أو بالأحرى متسكعاً، إلى الموقع القديم للقرية حيث كانت تقيم عمتي "فاطمة" ـ يرحمها الله ـ تلك الأرملة المسنة التي لم ترزق بأبناء رغم زواجها بابن عمها زهاء ثلاثين عاماً، حتى لقي ربه قبلها.

أما بيت أبي رحمه الله، فكان في المنطقة الجديدة بالقرية التي خرجت من "كمكمة الدروب" إلى فسحة الحقول وبراح التخوم، وكان رحباً لدرجة لم تعد قابلة للتكرار، ومع ذلك رفضت عمتي الانتقال للحياة مع أخيها (أبي) وزوجته (أمي)، التي هي أيضاً بنت خالها، وطالما تهربت من مناقشات لإقناعها بالعيش معنا، وحين كان أبي يحتد ترد بحسم وأدب جم: "خلينا اخوات" وتبتسم وتمضي بعد زيارات خفيفة ومتباعدة.
كنت في رمضان مسؤولاً عن توصيل "عمود أكل" يضم قدراً مما نأكله لبيت عمتي، لأنها لم تعد قادرة على الطبخ يومياً، فضلاً عن زهدها الفطري في كافة ملذات الحياة، إذ كانت ـ وهي الآن في رحاب باريها ـ سيدة تقف على عتبات التبتل، برقة العذراء ووقارها، عاشت وماتت دون أن تُقدم على مجرد تناول الطعام أمام أبي، أخيها الأصغر احتراماً وحياء.

وسط زحام التدافع في مدينة متوحشة كالقاهرة، يحدث أن يتوقف المرء مع نفسه أحياناً ليرصد حصاد الرحلة، فأجدني مقتنعاً بأنه يحق لنا نحن أبناء القرى والنجوع والكفور التباهي بأننا لم نخذل أحلام ذوينا، فمن أول رئيس تحرير هذه الصحيفة حتى رئيس الجمهورية، ومن زويل لمجدي يعقوب، كلهم نشئوا في قرى مصر ونجوعها، وسلكوا ذات الدروب الطويلة بدأب وصبر، لأنهم باختصار "كائنات ضد الفشل".

عودة لعمتي "فاطمة" وحين كنت أسير في جنازتها المتواضعة، شعرت أنني أشيع زمناً بكل تفاصيله، وكنت قد بلغت من العمر حداً أدركت فيه أن هذه السيدة علمتني دون أن تقصد أهم دروس العمر: كيف يمكن أن تكون في كل مواقفك واضحاً بلا تمييع، وأيضاً دون الانزلاق للمهاترات، بل تبقى مستمسكاً بالأريحية والسلوك المهذب المتحضر، باعتبارها المعايير التي تميزنا عن القرود.

مرارات كثيرة تراكمت في الوجدان عبر رحلة العمر، لكن بقيت حكايات الدرب متفردة كقصة أسطورية لا تبرح ذاكرتي، رغم وفاة عمتي وما لبث أن لحق بها أبي فجأة دون مرض ولا مقدمات، وبعدهما ماتت أشياءٌ كثيرة، واعتدت تلقي أنباء الموت بقسوة دون أن أذرف دمعة واحدة، أفسدتني المرارات واعتيادها..

يوجعني اليوم أنني مضطر لاعتياد غيابهم جميعاً وحين أعود لذلك البيت العتيق ولا أجد أحداً ممن أحببتهم فيه، أتذكرهم فأبكي في صمت، وأجتهد ألا يكتشف أحد ما يجول بخاطري فلم يعد هناك خيار سوى التسليم بأن أرواحهم تحلق على بعد مئات الأميال من منزلي القاهري الذي لا يحمل أي ذرة من عبق الدروب، بل يبتعد مسافة أقطعها مرتين سنوياً على الأكثر، هي مسافتي إليهم، إلى منازل الصبا حيث يرقدون في سلام:
عمتي
وأبي
وكل رفاق الدرب
وبقايا أحلام تتبعثر من يدي
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٧ تعليق