CET 00:00:00 - 26/08/2009

مساحة رأي

بقلم: فرانسوا باسيلي
منح جائزة الدولة التقديرية للمفكر المصري سيد القمني، وردود أفعال بعض الأفراد والجهات الدينية والإعلامية المستهجنة لهذا المنح والتي أصدرت فتاوى تكفيرية لأفكار وجمل مقتطعة من أعمال القمني، وخشية بعض المثقفين أن يكون هذا تمهيدًا لإهدار دم الرجل، هو مشهد يقع في إطار العشوائية الفكرية التي تعشش على الثقافة المصرية اليوم. وهو أمر يتسق مع حالة العشوائيات الأخرى التي تتخبط فيها كافة منظومات الحياة في مصر والتي تشهد حالة من العشوائية المجتمعية العامة (هي فوضى!!) التي نجد عليها نظم التعليم والصحة والمرور والإسكان والسياسة والإعلام والفنون بأنواعها، ولذلك فمن الطبيعي في هذا المناخ أن نجد العشوائية متفشية أيضًا في المناحي الفكرية والدينية في مصر اليوم.

ونجد عراكًا صاخبًا متشنجًا بين فريقين، واحد يهاجم القمني والآخر يدافع عنه، في حالة من الهياج والصخب دون أن نصل إلى فهم دقيق لأساس المشكلة، وبالتالي لا نصل إلى حلول تمنع تكرارها.
وهكذا يتكرر المشهد العبثي المؤلم والدموي أيضًا، من فرج فوده ونجيب محفوظ إلى نصر حامد أبو زيد إلى سيد القمني، لدينا هنا خلل أساسي لا يحاول أن يفهم طبيعته أحد، ولذلك سيتكرر هذا المشهد مرات ومرات. خلل أساسي في تعامل مجتمعاتنا مع قضية الكفر أو المروق الديني ومع منطق التكفير مع غياب آليات التعامل مع المكفرين، فنحن لا نعرف ماذا نفعل بالكفار والمكفرين ولذلك نتصرف بعشوائية كلما واجهتنا قضية تتطلب منا التصرف إزاء أعمال تتصف بالكفر وإزاء أعمال مضادة تقوم بتكفير الآخرين.

فماذا نفعل بالكفار والمكفرين؟

في عصور الجهل والظلام –وهي عصور ما تزال قائمة في عقول البعض في يومنا هذا- كانوا يحرقون ويصلبون الكفار من كل ملة ودين. والكفار هم من يخالفونك في المعتقد، كل مَن لا يؤمنون بالإله الذي تؤمن به أنت وبنفس الطريقة والأسلوب بل والكلمات التي تؤمن بها أنت، كان كل أتباع دين يعتبرون من لا يتبع دينهم "كفارًا" حتى ولو استخدموا تعبيرًا مغايرًا. وهكذا صلب اليهود السيد المسيح وصلب العرب الحلاج وحرقوا كتب ابن رشد- وحرق المسيحيون المئات من "المهرطقين" والكفار إثر محاكم التفتيش في أسبانيا- وحرقوا "الساحرات"! في أمريكا بينما وقف رجال الدين –رجال كل دين- ضد العلم والعلماء على مدى العصور وحاربوا من اكتشف أن الأرض ليست مركزًا للكون وأنها كروية وليست منبسطة وبعضهم يحارب كل اكتشاف علمي جديد حتى اليوم وإن كان بدرجات متفاوتة من الاستحياء والتهيب بعد أن خسروا معاركهم مع العلم في كل مرة.

تاريخ البشر في التعامل  مع من ينعتونهم بأنهم كفار "أو مهرطقين" -أي يقولون كلامًا مخالفًا للتفسيرات السائدة للنصوص– هو تاريخ أسود لا يشرف أحدا في الشرق ولا في الغرب، ولكن المشكلة أننا في الشرق -وفي مصر على التحديد اليوم- نتعامل مع هذه القضايا الإنسانية والفكرية والاجتماعية والدينية الخطيرة وكأن ما نواجهه منها أمر يحدث للبشرية لأول مرة، فنتجاهل أن ما يحدث لنا اليوم قد حدث في الغرب منذ خمسة قرون، وأن مسيرة التقدم الحضاري مسيرة إنسانية شاملة بدأت في مصر القديمة ثم انتقلت إلى الحضارة الإغريقية ثم الرومانية ثم إلى الحضارة الإسلامية التي حافظت على المعارف الإغريقية وترجمتها وأضافت إليها، ثم إلى الحضارة الغربية التي أحدثت طفرة نوعية هائلة انتقلت بالإنسان –عبر عصور التنوير والنهضة الأوربية ثم الثورة الصناعية ومؤخرًا ثورة المعلومات والتكنولوجيا- إلى مراكز بالغة السمو والتألق في المفاهيم والممارسات على حد سواء مما ارتقى بمعيشة الإنسان خطوات عديدة باهرة، دون أن ننسى إسهامات الحضارات الأخرى في الصين واليابان والهند.
عبر هذه المسيرة الحضارية المثيرة بما صاحبها من صراع دموي بين أتباع الأديان والمذاهب المختلفة وكذلك بين المؤسسات الدينية والأفراد المبدعين من العلماء والمفكرين، توصلت البشرية في مجتمعاتها المتقدمة حضاريا إلى ترتيبات قانونية وتعارفية وضعت حدًا للتدخل الدموي لرجال الدين في الطروحات والكشوفات العلمية والفكرية التي يطرحها المفكرون والمبدعون من العلماء والفنانين، واستطاعت المجتمعات الغربية المتوثبة تحرير رقابها من سلطان وطغيان المتحدثين زورا باسم الآلهة، فانطلقت أكبر وأجمل حركة حضارية تقدمية في كافة مجالات الإبداع الإنساني واستمرت بلا انقطاع عبر الخمسة قرون الماضية حتى أوصلتنا إلى اللحظة الحضارية الحالية المبهرة.

حرية فردية مقدسة:
تحقق هذا الانجاز الإنساني الضخم نتيجة لتقنين عدد من المفاهيم التي تحولت مع الوقت، وبقوة القانون، إلى ممارسات وقناعات فردية وجماعية تضمن للإنسان الفرد حريته الكاملة إلى الحد الذي لا تتعدى فيه على حرية الآخرين، وبمقتضى هذه المفاهيم نزعت القداسة عن تقولات وتفوهات وتهديدات رجال الدين التي كانوا يتسلطون بها على البشرية ومنحت هذه القداسة لكل فرد في شكل حرية فردية مقدسة ومصونة لا تمس من قبل إنسان آخر تحت أي عذر، ولا تسحب من أي فرد حريته المقدسة هذه إلا بمقتضى القانون وبآليات عادلة وشفافة وعلنية لتطبيقه على الفرد إذا ما اعتدى على حرية أو حقوق أي فرد آخر.
شكّل هذا الانتقال لهالة القداسة من حول رؤوس رجال الدين (ولاحظ أنهم دائما رجال في غياب فاضح للمرأة التي هي نصف البشرية!) لتحط حول رأس كل فرد في شكل حرية فردية مقدسة انقلابًا هائلاً في حياة معظم البشر في المجتمعات الأوربية والأمريكية التي استفادت منه، فقد أحدث انطلاقًا وانفجارًا هائلاً في كافة الطاقات الإنسانية التي كانت مكبوتة ومكبلة ومرتعدة تحت نير التسلط الديني المتزمت، وراحت تبدع وتفكر وتكتشف وتجرب وتحطم الأسوار في كافة المجالات، فإذا بحضارة باهرة بالغة الإثارة والجمال والفتنة تقوم "قومة امرأة واحدة"! في أوربا الغربية ثم أمريكا الشمالية، وإذا بكمية المعارف والفتوحات المعرفية المتحققة في القرن العشرين وحده تعادل كل المعارف الإنسانية السابقة منذ فجر التاريخ.

تحت المفاهيم والقوانين الحامية للحريات الفردية لم يعد باستطاعة أحد أن يقوم بتكفير إنسان آخر ولا الاعتداء عليه فعليًا بالصلب أو الحرق أو الإعدام ولا معنويًا بالتشهير والمعايرة، إذ قامت هذه القوانين والأعراف بحماية حق الفرد في أن يؤمن أولا يؤمن، في أن يصلي ويتعبد أو لا يفعل هذا، ولضمان قداسة الحرية الفردية قامت هذه المجتمعات المتحضرة بتحريم عمليات التكفير للآخرين باعتبارها عدوانًا على حرية الإنسان المقدسة، وصدرت قوانين تحرم التحريض على العنف بأي شكل من أشكاله فكل الأفكار وأشكال التعبير عن الأفكار مسموح بها ماعدا تلك التي تنادي وتحرض على العنف ضد الآخر –فهذه جريمة-.
وهكذا تحمي القوانين الحضارية حق الإنسان في أن يكفر، ولكنها لا تمنحه حق تكفير أي إنسان آخر بل تعاقبه إذا فعل. وهذا هو عكس الحال في المجتمعات العربية، إذ لا يستطيع الفرد المسلم أن يجاهر بكفره دون التعرض لمن يقوم بتكفيره وهدر دمه، بينما لا قانون ولا أحد يعاقب من يقومون بتكفير وإهدار دم الآخرين بل هناك غطاء اجتماعي ومباركة جماعية للقائمين بالتكفير بل وقوانين مثل قانون الحسبة تمنح الشرعية لأعمالهم العدوانية ضد تفكير الآخرين.

أوضاع مقلوبة:

الأوضاع إذًا مقلوبة في مجتمعاتنا العربية، ولذلك نجد الدولة المصرية التي قامت بمنح جائزتها التقديرية لسيد القمني تقف صامتة أمام دعاوى تفكيره المعلنة في الصحف ووسائل الإعلام على ملأ الأشهاد.
وتكفير سيد القمني يأتي بعد أسابيع قليلة من هيجان التكفير الجماعي الذي قام به عدد من الكتاب والصحفيين  لآلاف العائلات البهائية في مصر، وقام صحفي متشنج بتكفيرهم والتحريض العلني على العنف ضدهم في برنامج "الحقيقة" على قناة دريم، وهو صحفي يتصور في نفسه بطولة من يهاجم أعداء الدين من الكفار والمهرطقين المارقين، فسيادته لا يعترف بالبهائية التي يؤمن بها ملايين من البشر ومادام هو لا يعترف بالبهائية فلا يجوز أن يؤمن بها إنسان -لقد نصب هذا الرجل عضو نقابة الصحفيين المصرية من نفسه متحدثا باسم السماء- مانحًا نفسه صلاحيات وسلطان الحكم على معتقدات وإيمان الآخرين.
إنها محاكم تفتيش علنية نشاهدها جميعًا على شاشات التليفزيون المصري وعلى صفحات الجرائد المصرية والدولة غائبة عن الوعي ومتغابية عن الواقع! لو كانت هذه دولة في وعيها لقامت بمحاكمة هذا المتحدث الإلهي المزور بتهمة التحريض على العنف ضد الأبرياء، فقد خرجت الجموع في قرية في الصعيد وأحرقت بيوت البهائيين وروعت أطفالهم بعد ذلك التحريض الإجرامي -وليس أخطر على المجتمع من أولئك المتشنجين المصابين بلوثة التوهم أنهم المدافعون عن أديانهم ضد الكفار-!

إن قداسة الحرية الفكرية والفردية في الغرب لا تؤدى إلى ظهور البعض في محطات التليفزيون لاعنين أو هازئين من معتقدات الآخرين. إن الولايات المتحدة وهي المجتمع الأكثر احترامًا للحرية الفردية، لا تسمح لأي فرد بالاستهزاء أو تحقير معتقدات الآخرين الدينية بل وحتى الثقافية والاجتماعية في الإعلام العام. وعندما يفعل هذا مقدم برنامج يفقد وظيفته على الفور، وإذا فعلها سياسي يضيع مستقبله الانتخابي وذلك لأن هذا المجتمع فصل بين المجال العام والخاص. ولم يعد المجال الوطني العام يقبل الحديث في الأديان. فهذه لها مجالات إعلامية وأكاديمية متخصصة يمكن فيها تقديم دراسات جادة في الأديان وتحتمل النقد الفكري الرصين، ولكن في مجتمعاتنا العربية يحدث العكس، إذ تطارد وتصادر الدراسات الأكاديمية الرصينة في الجامعات ويضطهد أصحابها (نصر حامد أبو زيد مثالاً) بينما يمتلأ الفضاء الإعلامي العام بالمتطرفين والمتشنجين الذين يلوثون أسماعنا بهجوم فج واستهزاء صبياني بمعتقدات الآخرين، ويجب أن يكون هذا مرفوضا فيما يخص جميع الأديان والمعتقدات سواء كانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو بهائية أو غيرها.
هذا العبث واللغو الديني في مجتمعاتنا العربية يكشف مدى الخلط في المفاهيم والممارسات السائدة، في غياب قيادة سياسية وثقافية واعية كان عليها أن تمنع هذا العبث وترسم القواعد والقوانين لترشيد المجتمع.

حالة هياج ديني:
إن التكفير هو أحد مظاهر حالة الهياج الديني المرضي الحادة المصابة بها مجتمعاتنا ولا يوجد مجتمع آخر متحضر اليوم يضيع وقتًا في قضايا تكفير وهجوم ودفاع في أمور تتعلق بمعتقدات وأديان، وحدها مصر والمجتمعات العربية تستهلك نفسها في مثل هذه الأمور التي لا تفيد الإنسان أقل فائدة بعد أن أصبح التدين الجماعي العلني لديها حالة نفسية مرضية مستفحلة تتطلب علاجًا سريعًا.
لقد غرقت المؤسسات الحكومية والمدنية والسياسية والتعليمة والإعلامية في مصر في مستنقع أصبح فيه التدين جزءًا من منظومة الفساد والعبث والعشوائية والبلطجة والفهلوة وعدم العمل وتدني الإنتاج وعدم بالمسئولية والمحاسبة على الخطأ وقد تحول أغلبية الناس إلى دراويش لا يفعلون بل ينفعلون ويفعل بهم، يقبلون الظلم والفساد والعبث والاستهتار بمفاهيم الاتكال على الله والرضا والصبر الجميل ويرتكبون كل إثم تحت غطاء من الورع الزائد والتقوى المفتعلة.
وقد منحوا عقولهم عطلة طويلة وسلموا أمورهم للفتاوى التي تحكم خطواتهم وخلجاتهم، وبهذا كله تتحول مصر الحضارة إلى مجتمع فاشل خامل تضربه العشوائية والتسيب، ومآله هو ومجتمعات عربية كثيرة تحذو حذوه، هو الوصول إلى حد الحكم على صحفية ترتدي البنطلون بالجلد أربعين جلدة!

كاتب من مصر يقيم في نيويورك
fbasili@gmail.com

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق