CET 11:22:24 - 24/08/2009

مساحة رأي

بقلم: نبيل شرف الدين
مهما حملتنى الأقدار لدروبٍ ومسالك، فلن تمحى من مخيلتى صورة رمضان قبل نحو ثلاثة عقود فى قريتى النائية، شأن غيرها من آلاف القرى المهمشة فى صعيد مصر، لأنه كان شهراً فريداً تبلورت ملامحه عبر تراكم خبرات شاركت فى صياغتها أجيال متعاقبة، وإن كانت للأسف راحت تتبدد مؤخراً ضمن خسائرنا فى المواجهة الحضارية مع «مدن الملح»، وشيوع رؤية كئيبة لكل مظاهر التدين حملها الجراد الصحراوى فى صورة قصف مكثف لنسف كل جميل ومتميز فى حياة المصريين، وأحالهم لمسوخ ثقافة دخيلة صلتها بالخالق لم تكن يوماً أعمق من صلة المصريين والترك والفرس وغيرهم من الأمم المسلمة.

كان رمضان فى تلك الأيام الخوالى بوابة لبهجة وحفاوة البسطاء بالحياة بشتى صورها، فرأيت كيف يتربص الفقراء قبل الأغنياء، والمسيحيون مثل المسلمين، بنسمات هذا الشهر ليتباروا فى ممارسة التسامح بكل معانيه، ويجتهدوا فى اختلاس الفرحة من بين أنياب الفقر وقلة الحيلة.

مياه غزيرة جرت فى النيل قبل أن يتحول رمضان لمجرد «سلعة»، ويصبح موسماً للهوس بامتياز.

خذ عندك مثلاً «بيزنس عمرة رمضان»، الذى فتح أبواباً للمباهاة بدرجة الفندق والطائرة، وموائد الرحمن والسلطان، والخيام الرمضانية، وحتى الاختراع الجديد الذى يطلق عليه «شنطة رمضان»، وهو «افتكاسة» اخترعها التجار الشطّار، ليتخلصوا من السلع الراكدة لديهم.

ورغم أطنان المأكولات والمشروبات، وماسورة التسلية التى تنفجر عبر الفضائيات فى صورة مسلسلات وبرامج كوميدية وترفيهية، فستكون من التعساء حين تضطرك الأقدار للسير فى شوارع القاهرة قبل الإفطار بساعات، لأنك ستسمع وترى ما يؤذى حواسك.

دعونا نعترف بأن المصريين فى هذا الشهر يصبحون كائناتٍ عدوانية بشكل يستعصى على الفهم، ويستحق دراسة ميدانية رصينة للوقوف على أسباب تعايشنا مع كل هذه التناقضات.

ثم لماذا لا يتسق المرء مع نفسه فيكون لإيمانه «المزعوم» مردود عملى على سلوكه ويقظة ضميره، وما الفرق هنا بين التدين الحقيقى، وهو «ما وقر فى القلب وصدقه العمل»، وتلك الموجة العاتية من الهوس الدينى التى يستغلها الأدعياء والمحتالون، وقد نجحوا بالفعل فى «تسليع» أنبل المعانى الروحية، بمعنى تحويلها إلى سلعة تحكمها قوانين السوق لا الصدق، حتى البر صار سلعة اسمها «شنطة رمضان».

لن نقف عند حد الانطباعات، بل سنحتكم لدراسة حديثة أعدها مركز البحوث الاجتماعية والجنائية‏‏ والجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، والتى خلصت إلى أن المصريين ينفقون على الطعام سنويا‏ ٢٠٠‏ مليار جنيه،‏ يستأثر شهر رمضان وحده بنحو ‏١٥%‏ منها، أى ما يساوى ‏٣٠‏ مليار جنيه، بمعدل مليار جنيه يومياً، أما المثير للاشمئزاز حقاً فهو ما أشارت إليه الدراسة من أن ٦٠% من الطعام على الموائد المصرية خلال رمضان يلقى فى القمامة، فأى سفه هذا؟.

يد غير مجهولة اغتالت «رمضان المصرى»، الذى كان العرب والعجم يحسدوننا عليه ويهنئون من يسعده زمانه منهم لحضور أجوائه القاهرية، قبل أن يتحول الأمر إلى مزاد لتحريم جميع مظاهر الخصوصية المصرية كالموالد، وزيارة أضرحة آل البيت وأولياء الله، كما تسعى اليد ذاتها بدأب لإقناع البسطاء بأن كل هذا «شرك» بالله، لضرب المفردات التى تتألف منها ملامح الوعى المصرى بالإسلام فى طبعته السمحة.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق