بقلم: لطيف شاكر
وطني غيور أم خائن لوطنه؟
كان وجود الفرقة القبطية إذن أول شرط أساسي يمكّن رجلا من أفراد الأمة المصرية يتبعه جند من أهل الفلاحة والصناعة من أن يكون له أثر في أحوال هذه الأمة إذا تركها الفرنسيون، وعادت للعثمانيين والمماليك يتنازعونها ويعيثون فيها فساداً، وبغير هذه القوة يبقى المصريون حيثما كانوا بالأمس بلا تغيير جوهري (د. شفيق غربال).
تشير المؤرخة البريطانية الشهيرة لويزا بوتشر صاحبة موسوعة (تاريخ الأمة القبطية) في مجلدها الثاني.. أنه بسبب الحملة الفرنسية على مصر عانى الأقباط الشدائد والأهوال وشربوا كئوس المرارة وذاقوا الهوان خلال فترة الإحتلال الفرنسي بيد الأتراك العثمانيين وهمجية المماليك ورعاع المسلمين القاهريين وزادت حسرات الآلام على الأقباط بسياسة نابليون الإسلامية وقواده من بعده حيث مالوا إلى جانب القاعدة العريضة بمحاباتهم وتفضيلهم علي الاقباط كفئة اقل, وأشاعوا بانهم مسلمون مثلهم، ولا فرق بينهم، وقد اسلم فعلا القائد مينو وتزوج من احد فتيات البيوت المتوسطة وقاموا بطرد الأقباط من وظائفهم, كل هذا لكي يدخلوا في قلوب المسلمين الرضى تجاههم. وعندما وطئت أقدام نابليون مصر قام بتوزيع منشور على عامة الشعب المصري يعلن فيه مساواة الجميع أمام الله وان الفرنسيين مسلمين وحطموا قبلا كل حصون المسيحيين في ايطاليا والفاتيكان، ومع هذا اعترض الجبرتي على عبارة المساواة واتهمهم بالجهل والحماقة وان هذا ضد الشريعة الإسلامية التي تنص على ان الله فضل بعضهم على بعض باعتبارهم انهم الاعلون على الكفار, وهم للأسف بلا أدنى كرامة امام الأتراك والمماليك المسلمين مثلهم.
وترى الكاتبة والمؤرخة بوتشر ان الأقباط كانوا دائما اول المضطهدين – بدون سبب – سواء وقت الاضطرابات والثورات المحلية التي حدثت عند بدء الإحتلال أو وقت خروجهم من مصر حيث انتشر السلب والنهب للأقباط وإهانتهم وقتلهم بدرجة لا تطاق، والذين سلموا منهم من الموت عم بيوتهم وكنائسهم الخراب والدمار.
وذكر المؤرخ "بطلر" ان الشعب القبطي في أيامه قاسى من الضيقات والاحزان والبلايا والشدائد ما لا يحصى. وقد نقل عن المخطوطات القبطية ما نصه "إن خلقاً كثيرة من بلاد الافرنج – يقال لهم الفرنسيين – اتوا وتمكنوا من مصر فقام ضدهم سكان القاهرة، فقامت الحرب بينهم مدة ثلاثة أيام التزم البطريرك فيها إلى تغيير محل إقامته من حارة الروم إلى الأزبكية، وقد تألم الشعب القبطي كثيرا على يد الفرنساويين، فتخربت كثير من الأحياء القبطية, وأصبحت خاوية من السكان كالصحراء، وتخربت كنائس عديدة، وقاسى البطريرك ذاته مصائب عديدة بسبب وطنيته وعدم التساهل معهم في حق الشعب القبطي.
وتذكر بوتشر ايضاً ان حالة الكاثوليك واليونانيين خلال الحملة الفرنسية, لم تكن باحسن حال من حال سكان مصر الأقباط الأصليين, وان قسوة وعنف الحكام المحتلين فرنسيين أو أتراك أو مماليك او فيما بعد الانجليز, لحقت ايضا بالمسلمين أهل مصر، خاصة الذين لم يتحالفوا معهم اسوة باخوتهم المسيحيين.
وبالرغم من محاولة نابليون ونوابه الذين اتوا بعده كالجنرال كليبر وديزيه ومينو ان يرضوا المسلمين وعملوا على استمالتهم بطرد المسيحيين من وظائفهم وعدم اعطائهم حقوقهم واشاعة اسلمة نابليون وقواده والعمل على مشاركة شيوخ الأزهر في الحكم مع الفرنسيين, وارسال الخطابات الرنانة التي تمجد الإسلام ونبي الإسلام والمسلمين, والوقوف بجانبهم ومجاملة المسلمين بالاشتراك معهم في مناسباتهم الدينية, وتقديم الهدايا والعطايا لهم ومنحهم الأموال واعطوهم السلام والأمان مقابل سلب الأقباط من كل شيء حتى سلامهم وأمآنهم. ولكن مع هذا كله لم يقتنع المسلمين بهذه التصرفات والأعمال الكاذبة بالرغم من ان نفر منهم قد اسلم فعلا ومنهم القائد مينو.
ولم تنطلي على المسلمين هذه الخدع وتعاملوا معهم ككفرة يستحقون القتل. وفي المقابل تعالى العثمانيون الأتراك والمماليك على المصريين مسلمين وأقباط وسلبوا حرياتهم وكرامتهم. وكان للأقباط من هذا الاحتقار والازدراء نصيب الأسد، وفرضوا على المصريين الضرائب – خاصة الأقباط – واعتبر الحاكم التركي ان كل البلد بما فيها الأنفس والأراضي والممتلكات والأعمال ملكاً خالصا للحاكم والزمهم باعادة شراء ممتلكاتهم بالسعر الذي يحدده طبقا لفتوى القاضي التركي.
والجبرتي شاهد عيان لما عانته الجماهير المصرية على يد العثمانيين واعتبروا مصر دار حرب وعاثوا في الأرض فسادا بحجة انهم اجتهدوا في طرد الفرنسيين من البلاد. ويقول الجبرتي عن هؤلاء العثمانيين: "أنهم أشر من مشى على الأرض".
ويذكر الجبرتي عنهم وعن المماليك انهم هاجموا السيدات وخطفوا ما في ايديهن ورفضوا سداد مشترياتهم للباعة وإذا اشتكوا قيل لهم (أناس قاتلوا وجاهدوا وقاسوا ما قاسوه من الحر والبرد حتى طردوا عنكم الكفار وأرحلوهم عن بلادكم أفلا تسعونهم في السكن بينكم؟! واشترك في هذا الهم الثقيل كل المصريين بلا إستثناء مسلمين وأقباط على يد العثمانيين والمماليك على السواء وهما قوتان لا يربط بينهما سوى روابط السلب والنهب والفساد (الجبرتي).
ثورة القاهرة الأولى 1798م
كان السبب الأول لاشتعال هذه الثورة كما يقول الاستاذ عبدالعزيز جمال الدين في موسوعته (تاريخ مصر) في الجزء الرابع نقلا عن الجبرتي: هو تلك الضرائب الجديدة التي اقر بها بونابرت ووافق عليها الديوان العام المكون من شيوخ المسلمين والفرنسيين, حيث فرضوا الضرائب على الأملاك والقضايا والمباني كالحمامات والخانات والحوانيت والمقاهي وطواحين الغلال.
وهذه الوسائل المالية التي ابتدعها الفرنسيون لم تلحق ضررا كبيرا إلا بالموسورين الذين حركوا العوام للتمرد والثورة، والذي قام بالدور الأكبر في هذه الثورة هم رعاع المسلمين الذين اشار إليهم الجبرتي تارة بالحرافيش وتارة بالغوغاء, بالإضافة إلى صغار مشايخ الأزهر.
لماذا فرض بونابرت هذه الضرائب؟
استخدام الديوان الأموال المحصلة من الضرائب للصرف منها على الأعمال التالية:
- تغطية تكاليف عمليات توسيع الطرق.
- إضاءة الشوارع والحارات والأسواق بالقناديل.
- الإجراءات الصحية التي استحدثها الفرنسيون بخصوص دفن الموتى في مقابر خاصة بعيدة عن العمران ومكافحة الأوبئة لاسيما وباء الطاعون, الذي كان منتشراً في ذلك الوقت وهدد سكان مصر ومات بسببه الكثير من الأهالي وجيوش الإحتلال.
- وقد الزموا الأهالي على نشر متاعهم وملابسهم على اسطح المنازل حتى تقتل الشمس جراثيم الأمراض وتطهير منازلهم وتنظيفها ورشها، وعينوا لكل حارة أو موقع إمرأة ورجلين للكشف والتأكد من تنفيذ التعليمات بدقة.
أما السبب الثاني لهذا التمرد هو الدعاية المضادة وتحريضات بكوات المماليك وكذلك تحريضات العثمانيين المتربصين على أبواب البلاد وهم يحملون فرمانات السلطان سليم الثالث التي دعا فيها المسلمين لإشعال حرب دينية مقدسة ضد الفرنسيين، وقرأها الأئمة علنا في المساجد ووصف هذه الفرمانات بان الفرنسيين كفرة واعداء للإسلام وجميع الديانات، واعلنت ان جيوش الامبراطورية العثمانية سوف تأتي سريعا لسحقهم.
ولقد لقيت دعوة الجهاد المقدس آذانا صاغية لدى جماهير المعممين، فأخذ أئمة المساجد يحرضون الناس في خطبهم على الثورة، كما راح المؤذنون يعلنون من فوق المآذن الدعوة إلى الجهاد ضد الكفار الظالمين.
ولهذه الأسباب تجمهر الأزهريين وعامة القاهريين في صبيحة يوم 21 اكتوبر 1798 للإحتجاج وكانت الشرارة التي اندلعت منها تمرد القاهرة الأولى، واتجهت الجموع الثائرة إلى حي الأزهر، وامتلأت طرقات الحي بالجماهير المسلحة بالبنادق والرماح والسيوف والعصي، ثم انطلقوا إلى احياء الفرنسيين والأقباط واستولوا على المواقع المحيطة بمعظم احياء القاهرة، واخذوا يطلقون النار على الفرنسيين وعلى الأقباط قتلا ودمارا بطريقة شنيعة ووحشية.
ولما علم نابليون بهذا التمرد وقتل الفرنسيين وكان خارج القاهرة وقت اندلاع التمرد، عاد مسرعاً ونصب المدافع واطلق النار على المتمردين في حي الأزهر مركز التمرد.
ويؤخذ من رواية الجبرتي ومن رواية الفرنسيين انفسهم (الراوي هنا المؤرخ عبدالعزيز جمال الدين) أنه في اليوم الثاني للثورة (22 اكتوبر) حين شرع العامة والمعممين في مهاجمة مقر القيادة الفرنسية بالأزبكية كان الجنود الفرنسيون يهاجمون حي الأزهر، وظل الجنود الفرنسيون يحتلون الأزهر حتى ذهب وفد من المشايخ إلى بونابرت يستعطفونه الجلاء عنه، فكان هذا نهاية التمرد الأول الذي استمر ثلاثة أيام (21 – 23 اكتوبر 1798).
وقام نابليون باعدام المحرضين على التمرد ومنهم الشيخ سليمان الشواربي الذي كان قد حضر إلى القاهرة مع بعض البدو للسلب والنهب كما يقول الجبرتي.
فيلق يعقوب
وقد شعر يعقوب بفطنته العسكرية, ومن واقع التصرفات الوحشية وما يهدف إليه العثمانيين والمماليك من إبادة الأقباط والخطر المحدق بهم لإفناء كل ما هو أصيل بالبلد فيكون شأنهم شأن المسلمين العرب- وليس المسلمين الأقباط -إذا قتلوا المسيحيين الاقباط على هويتهم .ليكونوا والمسلمين العرب سواسية (غرباء) واحتسبوا الأقباط شركاء للفرنسيين في ملتهم وان كل ما لا يدين بالإسلام يستحق القتل والإبادة.
وكان حدس يعقوب صادقا فيما ذهب إليه من أحداث مستقبلية تنذر باشد الخطر على الأقباط وصدق حسه ورؤيته في احداث الثورة الثانية من أعمال يندى لها الجبين, ويشيب لها الأطفال الصغار. ولهذا اسرع يعقوب بتأليف فرقة عسكرية من شباب القاهرة والصعيد الاشداء والذين لهم قدرة على حمل السلاح ويتراوح عددهم يتراوح بين الألف والألفين حسب تقدير المؤرخين من الضباط والجنود, واسند تدريبهم وتسليحهم على نفقته الخاصة إلى الضباط الفرنسيين ليدربوهم على أساليب الدفاع والقتال الحديثة بعد ان خصص لهم زيا خاصا وراتباً شهرياً.
وكما ذكرنا في المقال السابق قول د. أحمد مجاهد رئيس هيئة قصور الثقافة والذي اعاد نشر كتاب احمد الصاوي - الذي يتهم يعقوب فيه بالخيانة في مقاله له بتاريخ 26-5-2009 بجريدة روزاليوسف - ان المعلم يعقوب ضم عدداً كبيراً من المسلمين وان الشخص الثاني لهذا الفيلق بعد يعقوب هو شخص مسلم اسمه مصطفى ويقطن بباب الشعرية (والعهده على الراوي الذي يناقض نفسه... وعجبي.؟!) ويقول د. غربال عن هذا الفيلق "انه أول جيش كون من أبناء البلاد بعد زوال الفراعنة".
ويسجل ايضا: ان وجود الفرقة القبطية شرط أساسي لطرد العثمانيين والمماليك ويستطرد قائلا " ....عول يعقوب على ان يكون القوة الحربية المصرية الجديدة مدربة على النظم الغربية فكان سباقا إلى تفهم الدرس الذي القاه انتصار الفرنسيين على المماليك والذي اخذ به فيما بعد محمد علي باشا".
ويقول د. انور لوقا :اما الفيلق القبطي لم يظهر إلا مؤخراً في ابريل 1800م أي بعد انقضاء ثلاثة اشهر على تقرير جلاء الفرنسيين في معاهدة العريش وانه تعبير عن مقاومة حتمية ضد المماليك والترك في سياق علامة سياسية ترجع إلى ما قبل الحملة الفرنسية وانه تنظيم صدر عن تمويل مالي وذاتي، وتجلت هذه الأصالة في مشروع استقلال مصر الذي أصبح هدف المعلم يعقوب. وللحديث بقية...... |