بقلم: د. عبد الخالق حسين
وقعت في بغداد يوم الأربعاء، 19 آب الجاري، سلسلة من الإنفجارات استهدفت خمس وزارات ومناطق أخرى، من بينها شاحنتان مفخختان أمام وزارتي المالية والخارجية، راح ضحيتها نحو مائة قتيل وأكثر من 700 جريح. والجدير بالذكر أن صادف هذا اليوم مع الذكرى السادسة لتفجير مبنى الأمم المتحدة في بغداد عام 2003 بهجوم انتحاري بشاحنة مفخخة أصاب أكثر من 150 شخصا وقتل 22 من بينهم سيرجيو فييرا دي ميللو، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة.
والملاحظ أنه منذ انسحاب القوات الأمريكية من المدن العراقية، يوم 30 حزيران الماضي، تنفيذاً للاتفاقية الأمنية بين الدولتين، تصاعدت وتيرة الأعمال الإرهابية في بغداد ومحافظة الموصل، وكركوك، وكانت تفجيرات الأربعاء الدامي هي الذروة.
إن وصول شاحنتين محملتين بكميات كبيرة من المواد المتفجرة إلى مناطق حساسة داخل المنطقة الخضراء، المفترض أنها تحت حراسة أمنية مشددة، أثار تساؤلات كثيرة لدى المحللين السياسيين والخبراء الأمنيين. وأهم سؤال هو، كيف استطاعت هذه الشاحنات الوصول إلى أهدافها المحصنة وتنفذ عملياتها الإرهابية البشعة وبهذا الحجم؟
الجواب واضح لدى الجميع، وهو لا بد أن المنفذين للجريمة هم من رجال الأمن أو مدعومين من قبل جهات سياسية عليا في السلطة وفوق الشبهة. وهذا يعني أن الأجهزة الأمنية والاستخبارات والقوات المسلحة العراقية، الشرطة والجيش، مازالت مخترقة وعلى نطاق واسع وجميع المستويات، أو بعض القوى السياسية من داخل الحكومة لها دور في هذه العملية. ولا ننسى ما لهذه التفجيرات من تأثير سلبي مدمر على معنويات الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة، وثقة الشعب بها. إذ كما نقل تقرير لبي بي سي، عن تصريح موظف بوزارة الخارجية العراقية، وهو حزين حاملا ملابسه في كيس وبصدد البحث عن منزل جديد بعد أن دمر تفجير الوزارة أبواب ونوافذ شقته قائلاً: "كيف يسمحون لشاحنة بالمرور في هذا الشارع المهم بالقرب من هذه الوزارة المهمة؟ مثل هذا الأمر لا يحدث حتى في أفغانستان، أو إفريقيا".
مشكلة الاختراقات
منذ سقوط حكم البعث عام 2003، وانهيار الدولة العراقية بجميع مؤسساتها، المدنية والأمنية والعسكرية، حصل فراغ أمني، وفتح الحدود بلا مراقبة، فصار العراق ساحة للحروب على عدة جبهات، حروب بالوكالة ضد قوات التحالف بقيادة أمريكا، وكانت إيران وسوريا هما الداعمتان لمختلف المليشيات الدينية، وخاصة جيش المهدي بقيادة مقتدى الصدر، حيث صارت سوريا حاضنة لاستلام الإرهابيين وتدريبهم، وإيواء البعثيين العراقيين، وفتحت حدودها مع العراق لإدخال الإرهابيين الإسلاميين من أتباع القاعدة القادمين من مختلف أنحاء العالم وبالأخص من السعودية، إضافة إلى حروب يشنها فلول البعث وحلفائهم من أتباع القاعدة على الشعب العراقي وعلى الحكومة الجديدة بغية إفشال العملية السياسية، وإلحاق الهزيمة بأمريكا، وإسقاط الحكومة المنتخبة لإعادة حكم البعث. وغني عن القول أن المستفيد الأكبر من هذه الأعمال الإرهابية الإجرامية هو البعث المنحل وغيرهم من أعداء العراق، والمتضرر الأكبر بالطبع هو الشعب العراقي.
وتدريجياً وبدعم من قوات التحالف، تأسست القوات المسلحة والأجهزة الأمنية العراقية بشكل سريع وتحت ضغوط الحاجة، ولذلك حصل اختراق لهذه القوات بسهولة وعلى نطاق واسع ومختلف المستويات، اختراق من قبل المليشيات الدينية وفلول البعث، بل وحتى من أتباع القاعدة وعصابات الجريمة المنظمة. ومن دلائل هذه الاختراقات، وقوع الكثير من أعمال الخطف والقتل من قبل أناس بملابس الشرطة وناقلات حكومية، وامتناع المئات من رجال الشرطة في عملية (صولة الفرسان) في العام الماضي، التي قادها رئيس الوزراء، السيد نوري المالكي بنفسه في البصرة، ومن ثم في مدينة الثورة في بغداد، الأمر الذي أدى إلى طرد نحو 1300 عنصر. كما وأفادت الأنباء عن طرد عشرات الألوف من العناصر التابعة لوزارة الداخلية والدفاع أوائل هذا العام. ولكن مع كل هذه الجهود يبدو، وكما حصل يوم الأربعاء، أن الأجهزة الأمنية مازالت مخترقة بالعناصر الفاسدة والإرهابية وخاصة فلول البعث.
خطط البعث الجهنمية
المعروف عن حزب البعث أن هدفه الرئيسي هو استلام السلطة، لا عن طريق صناديق الاقتراع، لأنه لا يؤمن بالديمقراطية أصلاً، بل عن طريق العنف ومهما بلغ الثمن. ولذلك لن يتورع البعثيون عن ارتكاب أبشع الجرائم لتحقيق غاياتهم حتى ولو أدى ذلك إلى هلاك الشعب. ونظراً لما لديهم من تراكم الخبرة منذ اغتصابهم للسلطة عام 1968، وضع قياديو الحزب المخططات الجهنمية للحفاظ على السلطة، ذكرناها في مقال سابق، إضافة إلى خطط أخرى لاستعادتها فيما لو فقدوا السلطة. ومن خطط استعادة السلطة، وكما جاء في بيان سري لهم قبيل سقوط نظامهم، نشر فيما بعد في وسائل الإعلام، بعنوان: وثيقة: تعليمات النظام السابق لاعوانه لتخريب العراق بعد سقوطه، نقتبس منه الفقرة التالية: " نهب وحرق كافة دوائركم الخاصة بمديرياتنا وغيرها، تغيير سكناكم بين حين وآخر، تخريب محطات توليد الطاقة الكهربائية، تخريب محطات المياه، تجنيد عناصر ومصادر معتمد عليها وإدخالها إلى الجوامع والمساجد، الانتماء الى الحوزة العلمية في النجف، الانتماء الى الاحزاب والتجمعات الوطنية والاسلامية، قطع الاتصالات الداخلية والخارجية، شراء الأسلحة المسروقة من المواطنين، التقرب من العائدين من خارج القطر، اغتيال أئمة وخطباء الجوامع المساجد..." والقائمة طويلة، وهذا هو الرابط:
http://www.nahrain.com/d/news/03/06/07/nhr0607b.html
هكذا حزب لا بد وأنه يعرف جيداً كيف يتسلل إلى مؤسسات الدولة، ويكوِّن ما يسمى بالخلايا النائمة، يحرِّكها في الوقت المناسب، أشبه بالقنابل البشرية الموقوتة.
لا شك عندي مطلقاً أن هناك تحالف بين فلول البعث وأتباع القاعدة، وتاريخهم يؤكد استعدادهم لعقد تحالفات مؤقتة مع أية جهة يمكن الاستفادة منها عندما تقتضي حاجتهم، وإن معظم نشاطات القاعدة في العراق تنفذ تحت توجيهات وأوامر ضباط سابقين بعثيين. لقد نهب البعثيون قبل سقوط نظامهم أموال الدولة وجميع معسكرات ومخازن وذخيرة الجيش، ولاشك أنهم هيئوا مخابئ في منتهى السرية، إذ سمعنا الكثير عن أنفاق وممرات ومخابئ وأوكار وحتى سجون تحت الأرض لاستخدامها في مثل هذه الظروف.
الفتنة الطائفية
لن يتردد البعث في توظيف أبشع الوسائل وأخسها دناءة في سبيل تحقيق أغراضه، ومن هذه الوسائل إثارة الفتن الطائفية، مثل التفجيرات وسط مواكب العزاء في المناسبات المذهبية الشيعية، وقتل المصلين في الحسينيات والمساجد ومجالس الفاتحة، والأعراس وغيرها من التجمعات في المناسبات الدنية وغير الدينية بغية استفزاز الشيعة ضد السنة. ولما فشلوا في كل هذه المحاولات لإشعال حرب طائفية، لجئوا إلى تفجير ضريح الإمام الحسن العسكري في سامراء، وحققوا بعض النجاحات في ذلك من ردود أفعال دموية في القتل الطائفي.
لا شك أن هناك صراع طائفي، سواء في العراق أو على مستوى دول المنطقة، وتوظيف الطائفية هذه للكسب السياسي. ففي العراق هناك صراع بين الأحزاب السنية والشيعية، كما وانحازت دول الجوار، السنية إلى الأحزاب السنية، وإيران الشيعية إلى دعم الأحزاب الشيعية، والضحية هو الشعب العراقي.
وفي هذا الصراع، نجح البعث في إدعائه بأنه هو وليس غيره الممثل الشرعي للعرب السنة في العراق. ومع الأسف الشديد انطلت هذه اللعبة البعثية القذرة على الكثير من الناس وعلى بعض الدول العربية أيضاً. ولذلك رأت بعض دول الجوار السنية أن المصالحة يجب أن تشمل حزب البعث ومشاركته في السلطة، رغم أن جميع مكونات الشعب العراقي بمن فيهم السنة العرب ممثلون في الدولة العراقية وفق ما أفرزته صناديق الاقتراع. ولهذا رفض ملك السعودية أي لقاء مع رئيس الوزراء العراقي بدعوى فشل الأخير في تحقيق المصالحة مع "شريحة رئيسية" من الشعب العراقي، بينما السبب الحقيقي هو طائفي. ولا شك أن المقصود بالشريحة الرئيسية هو حزب البعث، بينما مشاركة البعث في السلطة ممنوعة دستورياً.
لقد طفح الصراع الطائفي على السطح بين ممثلي الأحزاب الدينية في البرلمان العراقي بشكل علني بعد تفجيرات الأربعاء الدامي، وذلك بتبادل الاتهامات ضد هذه الدولة أو تلك في دعم الإرهاب، وحسب هويات تلك الدول المذهبية. فنواب سنة يتهمون إيران بدعم الإرهاب في العراق، ونواب شيعة يتهمون السعودية ودولاً عربية أخرى بذلك. وكل جماعة تحاول إبطال اتهامات الخصوم بعدم توفر الأدلة المادية! إذ يرفض النواب الشيعة ذكر إيران في دعم الإرهاب، بينما هناك أدلة واضحة تثبت التدخل الإيراني السافر في الشأن العراقي، وآخرها التقرير بعنوان: (العثور على صواريخ إيرانية في البصرة واتهامات لدول عربية بدعم المسلحين في العراق ).
أما النواب السنة فإنهم ينفون دور السعودية في الإرهاب، مادياً وبشرياً، أكثر مما يقره السعوديون أنفسهم. فقد كتب الصحفي السعودي طارق الحميد في صحيفة (الشرق الأوسط) السعودية، مقالاً بعنوان: (الشباب السعودي والإرهاب.. إلى متى؟) جاء فيه ما يلي: "قبل أيام ألقي القبض على شباب سعوديين في باكستان وهم في طريقهم للانضمام إلى «القاعدة»، وعرضت التلفزيونات صورهم وهم في هيئة رثة، وقام جلهم بتعريف أنفسهم والمدن التي يسكنونها في السعودية. وبالطبع فإننا اليوم أمام أسئلة تتكرر منذ أحداث 11 سبتمبر الإرهابية في أميركا: من المسؤول عن زف شبابنا إلى المهالك؟ من المسؤول عن تشويه سمعة المواطن السعودي في كل مكان؟ ومن هو حمال الحطب في الداخل السعودي؟" ويضيف: " وقبل أيام قرأنا التقرير الذي أعده زميلنا معد فياض من داخل سجن سوسة وكشف أن هناك قرابة 48 سجينا سعوديا بكردستان العراق، تقول السلطات هناك إنهم دخلوا إلى العراق من الأراضي السورية." (الشرق الأوسط، 24/5/2009).
كما وأكد قائد القوات الأمريكية في العراق العام الماضي، في تصريح له أن نحو 50% من الإرهابيين الأجانب في العراق هم من السعودية، ومعظم الانتحاريين تقريباً هم سعوديون.
أخطاء الحكومة
من أهم أخطاء الحكومة ما يلي:
1- أنها بالغت في إعلان الأفراح بمناسبة مغادرة القوات الأمريكية المدن العراقية يوم 30 حزيران الماضي، تنفيذاً للاتفاقية الأمنية، وتعاملت مع الحدث وكأنه يوم تحرير العراق من قوات الاحتلال، علماً بأن لولا هذه القوات لكان معظم الذين يحكمون العراق الآن مازالوا مشردين في الخارج.
2- الإفراط في الثقة بقدرة القوات العراقية على حفظ الأمن وسلامة الشعب، والمبالغة في دحر قوى الإرهاب، وقد أثبتت تفجيرات الأربعاء الدامي زيف وبطلان هذه الثقة.
3- الإسراع في رفع الحواجز الكونكريتية لأغراض دعائية فارغة، والتي كانت تقلل من تأثير التفجيرات في حالة حدوثها،
4- الإسراع في تسريح أعداد كبيرة من المعتقلين بجرائم الإرهاب دون محاكمة للتأكد من براءتهم،
5- التساهل مع الإرهابيين وخاصة الأجانب، حيث تم تسليم العديد منهم إلى حكوماتهم وخاصة الإرهابيين السعوديين، بدلاً من تنفيذ العقوبة بحقهم في العراق كما هو معمول به دولياً،
مقترحات لمعالجة الأزمة
1- يجب على الحكومة والقيادات السياسية لمختلف الأحزاب أن يثبتوا نضجهم السياسي، ويرتفعوا إلى مستوى المسؤولية، ويدركوا جيداً أن الصراعات الطائفية إذا استمرت فإنها ستؤدي إلى حرق العراق وهلاك الجميع، وتحقيق نبوءة صدام حسين: "أن الذي يحكم العراق من بعده سيستلمه أرضاً بلا بشر"، ودول الجوار التي تعمل على تغذية الصراع الطائفي هي وحدها المستفيدة.
2- عدم المبالغة في القدرات الأمنية وقواتنا المسلحة، فالتواضع دليل النضج والحكمة وليس دليل الضعف.
3- على المسؤولين أن يعتمدوا على ثقة شعبهم وليس على دعم الدول الخارجية مثل إيران والسعودية في بقائهم في السلطة، وهذه ليست دعوة لمعاداة دول الجوار، وإنما دعوة لتفضيل المصلحة الوطنية على المصالح الشخصية والفئوية،
4- يجب أن تدرك الحكومة أنها تواجه عدواً شرساً يمتلك خبرات متراكمة كبيرة في الخبث والدهاء والشراسة والوحشية والقدرة الهائلة على التدمير، إضافة إلى ما في حوزته ما نهبه من أموال وأسلحة وذخائر القوات المسلحة، ولن يبالي في سبيل تحقيق أغراضه حرق العراق بكامله، فهدف حزب البعث إما أن يحكم العراق أو تدميره بالكامل وفق مبدأ "عليّ وعلى أعدائي يا رب، وليكن من بعدي الطوفان.".
5- إعادة الحواجز الكونكريتية كما كانت سابقاً،
6- إعادة نشر قوات أمريكية في بعض المناطق من بغداد وخاصة المنطقة الخضراء، وحسب الحاجة،
7- التشدد في معاقبة الإرهابيين الذين تمت محاكمتهم بما فيه تنفيذ حكم الإعدام بحق كل إرهابي يصدر الحكم بإعدامه. فأحد عوامل تفشي الإرهاب هو عدم معاقبة الإرهابيين بما يستحقون، إذ تفيد الحكمة: "من أمن العقاب أساء الأدب" أما في العراقي، من أمن العقاب مارس الإرهاب.
8- إرسال قوات مسلحة لحماية الأقليات الدينية مثل الشبك والأيزيدية والتركمان الشيعة في تلعفر في الشمال، أو مساعدتهم بتشكيل مليشيات مسلحة محلية لحماية قراهم ومدنهم من بطش الإرهابيين الإسلاميين.
9- توفير حماية مستمرة لدور العبادة للمسيحيين والصابئة المندائيين وغيرهم،
10- شن حملة تطهير واسعة للأجهزة الأمنية والقوات المسلحة، والاستعانة بخبراء من الدول الغربية وخاصة أمريكا وبريطانيا للمساعدة، بما فيه استخدام الأجهزة الإلكترونية الخاصة باكتشاف الكذب، وغيرها من الوسائل، والتشدد في التعيينات في المستقبل.
11- مفاتحة الأحزاب السياسية التي تتعاطف مع الإرهابيين بذريعة "المقاومة الوطنية" بأخذ موقف واضح بعيد عن الضبابية والازدواجية من الإرهابيين بجميع انتماءاتهم، وبالأخص من البعثيين. وإذ ثبت ضلوع أية فئة سياسية بالإرهاب يجب فضحها ومحاكمتها بالخيانة العظمى.
12- على الحكومة فضح الدول التي تتوفر الأدلة على دعمها للإرهاب في العراق، والتشهير بها بدلاً من التستر عليها، إذ يجب الإعلان عن أسماء هذه الدول، وتقديم شكاوى عليها لدى الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية لمحاسبتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مواد ذات علاقة بالموضوع
1- العثور على صواريخ إيرانية في البصرة واتهامات لدول عربية بدعم المسلحين في العراق
http://www.iraqoftomorrow.org/index/70911.html
2- سياسيون عراقيون: اتهام «الدعوة» دولاً عربية محاولة للتغطية على «العبث» الإيراني
http://www.daralhayat.com/portalarticlendah/48890
3- طارق الحميد: الشباب السعودي والإرهاب.. إلى متى؟
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=520377&issueno=11135 |