CET 00:00:00 - 16/03/2009

مساحة رأي

بقلم- منير بشاي
لعله من أصعب الأمور على النفس المشاركة في مواقف الوداع، وربما أصعبها هو توديع الأحباء إلى مثواهم الأخير.
جميعنا نقوم بهذا الواجب رغم صعوبته لأنه لازم وضرورى، أما بالنسبة للخادم الأمين بانوب شحاتة وزوجته الفاضلة مدام راندا، فالقيام بمثل هذه الواجبات كان جزءاًَ طبيعياًَ من حياتهم عملاًَ بقول الكتاب المقدس "فرحاًَ مع الفرحين وبكاء مع الباكين".
فلا أظن أنهما أهملا القيام بهذا الواجب يوماًَ حتى بالنسبة لغير المقربين لهم. وبالأمس ذهبنا لتوديع صديق عزيز، ونظرت إلى جمهور المعزين الذين إمتلأت بهم قاعة الكنيسة، وعادة كنت أرى بانوب شحاتة ضمن الحاضرين، ولكن هذه المرة تختلف، لأننا أتينا لتوديع بانوب شحاتة نفسه.
كانت تربطني بالرجل صلة حب قوية كنت أجد متعة في الجلوس معه وتبادل الحديث. كانت كلماته دائماًَ تحمل حكمة عميقة وعلماًَ غزيراًَ ورأياًَ راجحاًَ.
وكان أيضاًَ لذيذ المعشر بشوشاًَ دائم الإبتسام، يتذوق الفكاهة ويجيد روايتها، ويضحك مع الناس وليس على الناس.
وأذكر أنني تقابلت معه ومع زوجته مرة وكانا قد إحتفلا حديثاًَ بعيد زواجهما الخمسين. ووجدتها فرصة لمداعبتهما فقلت له "خمسين سنة زواج!! أنت تستحق الجنة على هذا...".
إبتسم ولم ينطق بكلمة ولكن السيدة راندا أجابت "لماذا هو وحده الذي يستحق الجنة؟ أنا كمان..." فبسرعة أجبت "بالتأكيد أنت أيضاًَ".
وطبعاًَ كانت هذه مجرد دعابة من نوع الفكاهات التي يتبادلها المتزوجون أحياناًَ ولكن في الحقيقة لم أعرف زوجين كانا أسعد في زواجهما من بانوب وراندا، عاشا معاًَ يساند الواحد الآخر في رحلة جهاد طويلة دامت نحو ٥٦ عاماًَ.
وعندما داهم المرض بانوب وقع العبء كله على أكتاف راندا التي تحملته بكل حب وصبر وشجاعة ولم تشكو أو تتذمر يوماًَ.
قصة حياة بانوب شحاتة طويلة ومثيرة تشبه كثيراًَ حياة العصاميين الذين صنعوا أنفسهم بقوة الله، وأرجو أن يأتي وقت تتاح لنا أن نقرأ قصته كاملة في شكل كتاب ولكن لغرض هذا المقال سأسجل بعض اللقطات السريعة وهي مستقاة بتصرف من النشرة التي أصدرتها الأسرة عن حياته باللغة الإنجليزية.
ولد بانوب شحاتة في ٢٥ يوليو ۱٩٢۱ من أسرة فقيرة في مدينة المنصورة شمال مصر. دخل المدرسة وإستمر فيها حتى سن الحادية عشر وقبل إمتحان الشهادة الإبتدائية لم يتمكن من دخول الإمتحان لأن أسرته لم تكن تمتلك رسوم الإمتحان البالغة حوالي جنيهان، وهو مبلغ كبير بمقياس ذلك الوقت.
في سن ۱٣ إنتقلت الأسرة إلى مدينة المحلة الكبرى حيث وجد بانوب عملاًَ في مصنع للغزل والنسيج كان قد أفتتح حديثاًَ.
وكان الفتى بانوب يعمل وردية ۱۲ ساعة ويعطي دخله الصغير كله لأسرته للمساعدة في إعالة والديه وإخوته السبعة، وخلال هذه الفترة كان يحضر مدارس الأحد وتوطدت علاقته بالمسيح وزاد حبه للكنيسة.
ومع عدد من الأصدقاء، ظهرت بوادر حب بانوب لخدمة المحتاجين عندما أسسوا جمعية أسموها "الجمعية القبطية الأرثوذكسية للمهاجرين" وأعطوها شعاراًَ الآية التي تقول "غريب أنا في الأرض لا تخف عني وصاياك" (مزمور ۱۱٩:۱٩) ومع أصدقائه كان بانوب يزور القرى المحيطة يقرأ الكتاب المقدس للفلاحين الذين لا يجيدوا القراءة والكتابة.
وكان من ضمن هذه المجموعة صديقه عبد المسيح بشارة الذي أصبح فيما بعد نيافة الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف، ومع الخدمة إستمر بانوب في تعليم نفسه فإشترك في دروس المراسلة البريطانية حيث إستطاع تعلم اللغة الإنجليزية وأيضاًَ مبادئ المحاسبة والإقتصاد التي ساعدته كثيراًَ في مشاريعه وداعاًَ.. بانوب شحاتة...المستقبلية.
في سنة ۱٩٤٠ إنتقلت الأسرة إلى مدينة كفر الدوار للعمل في مصنع جديد بمرتب أكبر. هناك أيضاًَ كون مع أصدقاءه جمعية جديدة أسموها "إتحاد الشباب القبطي" وشارك في خدمة المحتاجين والتدريس في مدارس الأحد.
وكان من ضمن المشاركين معه شاب إسمه صبحي سعد الذي أصبح فيما بعد الأب ميخائيل سعد كاهن كنيسة سموحة بالإسكندرية ووالد الخادم المعروف دكتور سعد ميخائيل سعد.
ونتيجة للغارات الجوية في الحرب العالمية الثانية إضطرت الأسرة أن تنتقل إلى مدينة القاهرة وإلتحق بانوب بوظيفة أخرى في صناعة الغزل والنسيج بمصنع في شبرا الخيمة.
وإستطاع أن يعلم نفسه اللغة الفرنسية التي أضافت إلى المهارات التي ساعدته في مستقبل حياته وأهلته إلى أن يتحول إلى العمل في مجال المحاسبة لعدة مؤسسات.
في السنوات من ۱٩٤٢ – ۱٩٤٨ كان بانوب نشطاًَ في عدة كنائس في القاهرة وساعد في إنشاء خدمة مدارس الأحد في كنيسة الفجالة وكذلك الخدمة بين الشباب.
بعدها أسس "جمعية ثمر مدارس الأحد" ليستطيع أن يجمع التبرعات بطريقة قانونية ويرسلها إلى المحتاجين، وما تزال هذه الجمعية مستمرة حتى يومنا هذا.
في سنة ۱٩٤٨ عرض على بانوب فرصة للعمل كضابط في النقل البحري وعندما إكتشف صاحب الشركة كفاءته التجارية طلب منه أن يؤسس فرعاًَ للشركة في أثيوبيا. بعد وصوله إلى أثيوبيا أحس بانوب بمأساة الأطفال المهملين هناك ومع صديقه إدوارد بنيامين أسس ملجأ لرعاية البنات كان يعتني بمئات الأطفال.
وهناك أسس أيضاًَ مع بعض أعضاء الجالية القبطية أول كنيسة قبطية أرثوذكسية في أثيوبيا وأيضا أول إذاعة باللغة العربية كانت تغطي المستمعين في منطقة شرق أفريقيا.
في سنة ۱٩٥٣ تزوج بانوب من رفيقة جهاده راندا شكري وفي سنة ۱٩٥٨ إنتقلا مع أسرتهما إلى بيروت حيث أصبح بانوب رجل أعمال ناجح.
وقد أسس كنيسة القديس مرقس للأقباط الأرثوذكس هناك وهي الأولى من نوعها في لبنان وما تزال قائمة إلى اليوم.
وهناك ساعد بانوب الأقباط الذين كانوا يذهبون إلى لبنان طلباًَ للجوء إلى أمريكا وكان يدبر لهم مكاناًَ للمعيشة أحياناًَ لمدى شهور قبل سفرهم.
وفي سنة ۱٩٦٦ فقد بانوب كل ثروته المودعة في أحد البنوك ببيروت حين أعلن البنك إفلاسه فجأة ودون سبق إنذار.
ومع الصدمة العنيفة أعطاه الرب نعمة ليتقبل الأمر ويبدأ من جديد مردداًَ مع أيوب "الرب أعطى والرب أخذ فليكن إسم الرب مباركاًَ" أيوب ۱:٢۱ وإستمرت الأسرة في لبنان حتى قيام الحرب الأهلية هناك في أبريل ۱٩٧٥ ومرة أخرى فقد بانوب كل ما يملك ولكن لم يفقد إيمانه أو إحساسه بالشكر لله.
في سنة ۱٩٨٠إستطاع بانوب أن يحصل على تأشيرة للهجرة إلى أمريكا وإنتهى به المطاف في لوس أنجلوس حيث أسس له ولأسرته بيتاًَ يعيشون فيه ومشروعاًَ تجارياًَ يرتزقون منه.
وفي لوس أنجلوس مارس بانوب هوايته المفضلة في رعاية أخوة الرب المحتاجين داخل مصر أو من القادمين الجدد إلى لوس أنجلوس فأسس مع آخرين "الجمعية المسيحية للخدمات الإجتماعية" كذا أسس مشروع بنك الطعام الذي يقدم الطعام للأسر المحدودة الدخل.
وكان بانوب خادماًَ أميناًَ للكلمة وشارك في تأسيس إجتماعات لدرس الكتاب وساهم في نشر الكلمة المكتوبة بإصدار النشرات مثل نشرة "طوباكم".
في سنة ۲۰۰١ بدأت معركة بانوب مع مرض الفردوس (السرطان) الذي تحمله بشجاعة فلم يفقد يوماًَ مرحه ولم تفارقه إبتسامته.
وقد أعطته فترة المرض الفرصة أن يصفى أعماله وأن يرتب مستقبل ما بدأ من خدمات حتى يضمن إستمراريتها من بعده.
وفي يوم الأحد أول مارس ۲۰۰٩ تقابلت مع إبنه الأصغر فادي وسألته عن أحوال أبيه وطلبت أن يبلغه سلامي.
ولاحظت أن فادي كان يحمل معه نسخة من كتابي الأخير "هموم قبطية"، قال لي أنه سيأخذه إلى أبيه ليقرأه وهو في سرير المرض.
وكم كان شعوري غامراًَ بالسعادة أن يأخذ هذا الكتاب بركة هذا الرجل العظيم قبيل رحيله، وفي ١۲مارس۲٠٠٩ فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها بينما كانت أسرته إلى جواره  "ومات (بانوب) بشيبة صالحة وشبعان أيام" تكوين ۲٥ : ٨
أخونا الأكبر بانوب لقد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، وحفظت الإيمان وقد آن الوقت لك أن تستريح، "طوبى للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن، نعم يقول الروح لكي يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم" رؤيا ۱٤:۱٣ أعمالهم نتبعهم حيث هم  في السماء، وتخلدهم حيث نحن على الأرض
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ١٢ تعليق

الكاتب

منير بشاي

فهرس مقالات الكاتب
راسل الكاتب

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

مواضيع أخرى للكاتب

وداعاًَ.. بانوب شحاتة...

ثقافة الإختلاف وقبول الآخر

تعليق على التعليقات...

جديد الموقع