CET 08:24:50 - 17/08/2009

مساحة رأي

بقلم: نبيل شرف الدين
لعلي لا أتجاوز الحقيقة كثيراً حين أزعم أن مصر بطبيعة مكوناتها الحضارية، (جغرافيا وتاريخ وثقافات متراكمة..الخ) هي دولة علمانية بامتياز، فهذا البلد المتسامح الذي ظل طيلة تاريخه الممتد واحةً لجميع الأجناس والأديان، كما جمع بين صرامة الدولة المركزية، وتنوع مفردات مجتمعها، من البوادي على التخوم الشرقية والغربية، إلى خصوصية النوبة جنوباً، مروراً باستيعاب عدة جاليات أجنبية من الأرمن والإغريق والأتراك وغيرهم ممن عاشوا زمناً في العاصمتين السياسية (القاهرة) والتاريخية (الإسكندرية).

دولة مركزية يتمدد فيها النيل كأنه "العمود الفقري" لجسد، يبدو مفعماً بالحيوية تارة، ومترهلاً تارة أخرى، لابد أن تكون دولة علمانية تتجاوز الهويات الفرعية، الدينية منها والعرقية والثقافية وغيرها، لنقف جميعاً تحت مظلة أشمل وأوسع اسمها "الوطن"، الذي يبدو من فرط المتاجرة به، لم يعد الكثيرون منا يعرفونه.
حتى قبل نحت مصطلح "العلمانية"، كان معناه حاضراً في الخبرة الحضارية المصرية منذ فجر التاريخ حتى حطت سحابة 1952 السوداء، فنقلت ثقل المجتمع من الجامعة إلى الجامع والكنيسة، ومن الحزب إلى "القشلاق"، وانقض على هوية مصر "تحالف الأشرار" الذي جمع العسكر الانقلابيين، بالإخوان المتربصين، الذين أشاعوا خرافة الربط بين العلمانية والكفر، مع أنه لا أساس لعلاقة الاستبعاد المفتعلة هذه، فالإسلام بتقديري دين علماني، لأنه محض علاقة خاصة بين المرء وربه، دون وسيط كهنوتي، لكن هاهي طائفة المستفيدين تقاتل من أجل صناعة كهنوت إسلامي.

ألا تكفينا عبرةً هذه النماذج الماثلة أمامنا، لإثبات العواقب الوخيمة للدولة الدينية، أو العشائرية، أو العسكريتاريا، مقابل منافع الدولة المدنية العلمانية على غرار النموذج الغربي المتحضر؟.
وأي من هذه السيناريوهات يكفل للجميع العيش بسلام وأمن ويصون حقوق الأقليات في ممارسة شعائرهم بحرّية، ويضرب بقبضة حديدية كل من تسول له نفسه إثارة نعرات طائفية أو عرقية؟
هي بلا شك دولة القانون، المدنية الليبرالية التي تتسع لكل ألوان الطيف، سنة وشيعة ومسيحيين وبهائيين وحتى الكفار، فالعقد الاجتماعي يستند لفكرة المواطنة، وما دون ذلك لا يعني الدولة في شئ، بل هي مكلفة بحماية حقوق الجميع في اعتناق ما يشاءون من أديان ومذاهب، إذن وحتى بلغة المصالح فلا مفر من العلمانية لنكون في مصاف الدول الحديثة، والأمم التي تستحق موضعاً تحت الشمس.

أما في حالة المتأسلمين فغالباً ما يتجاوز الخلاف معهم حدود الفكر، ليصبح صراعاً يتصاعد ـ أو بالأحرى يتدنى ـ للإرهاب الفكري والتصفية الجسدية، والسبب هو أن معظم هؤلاء الأصوليين الإسلاميين الفاعلين على الساحة هم أبناء الحركة القطبية، نسبة لسيد قطب، وأفكاره الداعية لمبدأ "الحاكمية لله" كبديل لحاكمية البشر التي ينكرها هؤلاء المتأسلمون بل ويكفرونها، بينما هم أنفسهم يمارسونها باسم الدين والمذهب.

وهكذا في ظل هذه المفاهيم يتحول الدين لجهاز سلطوي ويصبح القائمون به وكلاء عن الله تعالى، وليسوا مجرد نواب للبشر والمجتمع، ولما كان القرآن كما قال الإمام علي بن أبي طالب: "لا ينطق، وإنما ينطق به الرجال"، فإن قراءة هؤلاء القائلين بخرافة "الحاكمية" وتفسيراتهم ستصبح المرجعية الوحيدة لكل ما يتعلق بشئون الدولة والمجتمع، وبالتالي ستصبح قرارات سلطتهم "الدينية ـ السياسية" مقدسة، لأنها تتمترس خلف النص الديني، وهنا ينبغي التأكيد على أن معظم الجماعات الإسلامية باختلاف مسمياتها وتنوعاتها هي امتدادات وانشقاقات من الحركة القطبية، وما تمارسه هذه الجماعات من تكفير وإرهاب مخالفيها هي مقدمات لا تبشر بالخير، فماذا يمكن أن يفعلوا بالناس لو حكموا، وهم يمارسون كل هذا الرعب قبل أن يقيموا "دولة الحاكمية" رسمياً!.

وأخيراً لا ينبغي للمرء أن يزعم الشجاعة حين يقول ما يؤمن به بوضوح، فهذا هو "أقل واجب" حيال وطنٍ ينبغي أن نصونه، وأجيالٍ يجب أن نمهد لها ظروفاً أفضل، وكم يتحسر العاقل حين يرى العالم يعدو صوب المستقبل، بينما يهرب البعض منا لشعاب الجبال، ولا يرون في حضارة الغرب سوى الشذوذ والدعارة والخلاعة، ويبدو أن هؤلاء في إلحاحهم على تلك المفردات والمعاني، إنما يكشفون عما يعتمل في صدورهم، وما يدغدغ حواسهم، ويسكن مخيلتهم المريضة.

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٧ صوت عدد التعليقات: ١١ تعليق