بقلم: أماني موسى
(جروح الوجه والجسم يراها مَن حولك فيحاولون تضميدها ومساعدتك أما جروح القلب والروح لا يراها إلا الله وهو الوحيد القادر على تضميدها) تذكرت تلك العبارة وأنا في زيارة لإحدى بيوت المسنين ولمحتها بقوة في عيونهن، فكثيرات منهن كن يضحكن أو يبتسمن ولكن خلف تلك البسمة كمًا من الأحزان التي سببتها لهن الظروف أو الأبناء، ولم تعد محاولات البعض للتخفيف قادرة على شفاء جروح قلوبهن الطيبة الرقيقة وأرواحهن الهادئة.
فوجدت العديد من النساء المسنات اللواتي تجمعهن صفات وملامح واحدة من حيث الهدوء المرتسم على الوجه مع بعض الخطوط التي خطّها الزمن على وجوههن ونحتها كفنان بارع، تحمل بين ثناياها عِبر وخبرات بعضها مُر والآخر حلو.
يجمع أيضًا بينهن الوهن البادي على كلاً منهن والبسمة التي تعلو جباههن رغم ما يعانونه من أمراض جسدية ونفسية، إذ أن الجميع قد تُرِكن من قِبل ذويهم بعد أن أصبحن عديمي الفائدة والنفع، فكن جميعهن حالاتهن متشابهة بل شديدة الشبه أحيانًا، فغالبًا ما تبدأ القصة بموت الزوج وشريك الحياة وترك الأبناء لأمهاتهم بدور المسنين لعدم وجود وقت كافي لرعايتهن أو حتى السؤال عليهن!
فحين تسمع قصة كلاً منهن تشعر وكأنك تشاهد فيلم واحد ولكن المؤلف أو السيناريست مختلف ومن ثم اختلاف أحداث الفيلم، وتتنوع البدايات بين حزينة وسعيدة ولكن النهايات تكون واحدة دومًا وهي إلقاء الأم في صندوق المسنين بدلاً من صندوق القمامة.
وبينما كنّا نجلس مع بعضهن أثارت فضولي إحداهن، إذ كانت تجلس وحدها بهدوء دون أي حديث ولا تخرج منها سوى بعض النظرات من آن لآخر تتفحص بها من حولها وكأنها تتعرف عليهم من خلال تلك النظرات، فشعرت بأن لديها الكثير لتحكيه وبالفعل ذهبت إليها لأتحدث معها محاولةً التعرف على خزائن أسرارها التي تبدو في عيونها، وحين بدأت بالتحدث غلبتها دموعها، فأخذت أربت على كتفها محاولة تهدئتها وأن تتوقف عن الحديث إن كان ذلك سيسبب لها ألم ولكنها أجابت: بالعكس، هذا سيريحني من الأثقال التي أحملها وحدي.
وبدأت تحكي أنها تزوجت عن حب من أحد أقاربها وأنجبت منه ثلاثة أطفال وكانت ظروفهم جيدة ماديًا واجتماعيًا إلى أن مرض زوجها مرض عضال وهو في العقد الثالث من العمر، مما أضطرها للعمل كبائعة في محل بقالة حيث لم تكن معها أية شهادات علمية وبعد فترة قصيرة من مرض زوجها رحل للسماء.
فحاول إخواتها تقديم مساعدات مادية لها ولأولادها ولكنها رفضت حتى لا يشعر أولادها بأي نقص –على حد قولها- وأكملت أنها خاطبت الرب في حينها قائلة له: أنت اللي كسرتني وأنت بس اللي هتقدر تجبرني، وفعلاً شعرت باستجابة السماء، واستمرت بعملها في المحل وبعد الضهر كانت تقوم بعمل مفارش وأطعمة جاهزة لجيرانها من سكان الحي.
وتمسح دموعها وتقول: اتبهدلت واللاهي يا بنتي عشان خاطر أربيهم ويبقوا حاجة كويسة وميحتاجوش لحد، ودلوقتي يرموني كدة محتاجة حتى بس السؤال عني عايشة ولا ميتة، زعلانة ولا فرحانة، سليمة ولا عيانة.
فحاولت تطييب خاطرها ببعض الكلمات واللمسات مع إيقاني بأن تلك الجروح لا يشفيها ويبرئها إلا الله.
وأنهت حديثها بأنها خرجت التلاتة حاجات كبير واحد دكتور وسافر برة والتاني مهندس وعايش في مصر والتالتة بنت ومتجوزة وعايشة في مصر، وأكملت نفسي أشوف أحفادي حتى.
فسألتها مين بيدفعلك الشهرية هنا؟ فقالت أبني المهندس بيجي كل أول شهر بيدفعها ويمشي!!!!
وكانت هناك قصص أخرى كلها تدعو للحزن، ولكن واحدة منهم أدهشتني حين علمت أن أم مسنة تركها أولادها وحدها بسكنها دون السؤال عنها نهائي وكأنهم قد نسوها بالفعل، إلى أن عثرت عليها إحداهن وهي في حالة يرثى لها وجسدها به دود وفي منتهى الضعف والهزال، فأخذت تعتني بها وبنظافة جسدها إلى أن رحلت عن عالمنا بسلام.
لن أكتب أية تعليقات على القصتين فهما يحملان ما هو أكثر وأعمق من التعليق، ولكني أتساءل هل هذا جزاء عادل لما قدمته تلك الأمهات لأبنائهن؟ أين الضمير الإنساني والبنوة الحقة؟ هل لهذه الدرجة تحجرت قلوب الأبناء؟ وأعتقد أني أظلم الحجر حين أشبه بهم قلوب أؤلئك الأبناء. |