بقلم: زهير دعيم
أذكر قولاً لجبران خليل جبران يقول بما معناه: إنّ الإنسان حين يكون شابًّا يكون ثائرًا، وحين يكبر يدخل في مرحلة الهدوء والسّكينة تمامًا كما الحجَر الذي يُقذَف إلى الماء فإنّه يُحدث دوائر ودوائر إلى أن يستقرّ في القاع ويهدأ.
كذا كان جبران في العواصف وكذا أضحى في نبيّه.
وكذا كُنتُ في شبابي، قبل أن أذوق حلاوة يسوع ومذاقه الفريد، وقبل أن أرتوي من موعظته وأمثاله وحِكَمِهِ التي تفوق الأيام والسنين والأجيال.
لم أرتو من مئات وآلاف الكتب التي قرأتها، ولكنني ارتويتُ حقًّا من الكتاب المُقدّس.
كنت في شبابي غرًّا، اعتقدتُ أنّ محبة الأعداء ضعف وتخاذل، وأنّ الصّلب استسلام وخنوع، وقلتُ جهارًا وسرًّا: ماذا يريدني هذا الشّابّ الجليليّ يسوع، أيريدني أن أخضع واستسلم وأخنع وأفقد كرامتي، وأساير عدوّي وأحبّه فيتمرّد عليّ؟!!
أيريدني أن لا أقاوم اللاعن والشّرير بل أحبّهما وأصلّي من أجلهما؟
لا... لا... أريد مبدأ نيتشه، أريد أن اتمرّد، فبالتمرّد صوْنٌ للكرامة، وبالثورة البشرية شَمَمٌ وشموخ!!
إلى أن عرفتُ السيّد، عرفت حقيقته، عرفت جوهره الأزليّ السرمديّ الغير مُتحوّل... عرفته عن قُرب.
هو الذي اقترب...
هو الذي بادرَ...
هو الذي تواضعَ وعرّفني بشخصه...
هو الذي دفع حساب الّلقاء والعشاء...
وكانت المائدة دسمة، شهيّة، مُغذيّة للروح قبل الجسد، عاطرة، عبقة بصنوف الرّجاء والأمل والمحبّة والتغيير.
لقد هبّت عليَّ رياح التغيير فكسرت أغصاني اليابسة، وقلّمت شوائبي، وداست عنفواني الأجوف، فاخضرّ الدّاخل منّي وأزهرت النفس ربيعًا دائمًا، وذُقتُ حقيقة الصّليب وعرفت معناه، فكبر هذا الصليب في عينيّ، كبر حتى ملأ كلّ كياني. حقيقة عرفت من خلال خشبة الجلجثة معنى الفداء والتضحية والعطاء والبذل وكل المعاني الخيّرة.
أضحى الصّليب الذي اعتبرته في شبابي ضعفًا واستسلامًا، أضحى عنوان فخر لا يعرف الحدود، ورمز انتصار ما فوقه انتصار، وزقزقة تملأ أيامي ولياليّ فرحا وبهجة.
تحسّرتُ وما زلتُ أتحسّر على تلك الأيام التي أكلها الجراد، الأيام التي ما قدّرت فيها الصليب حقّ التقدير، وما قدّرت فيها الموعظة على الجبل حقّ التقدير أيضًا؛ هذه الموعظة التي هي في أسطر قليلة أبلغ بما لا يُقاس من كلّ ما خطّه البشر وسيخطونه على مدى الأجيال والعصور.
إكليل شوكك يا سيّدي أجمل وأعظم من كلّ تيجان ملوك الأرض.
إكليل شوككَ يا سيّدي أبلغ تأثيرًا من كلّ قصائد الدُّنيا وخواطر الزمان.
صليبك يا يسوع عنوان مجدٍ، وفرحة أملٍ، وفسحة رجاءٍ ابديّ لا تُغلق.
صليبك يا يسوع رمز فخرٍ يُنعش البشرية ويرفعها إلى فوق.
صليبك يا يسوع كلّ حياتي، وكلّ أمنياتي وكلّ رجائي.
ففي صليبك أحتمي، وبه ألوذ، وعليه أتكل، وبه الرجاء والخلاص، ومنه المحبة والخير العميم والخلاص الأكيد.
صليبك يا يسوع منجاة لكل نفس من كل الأوصاب.
صليبك يا يسوع مفزعة الشيطان ومصيبته.
صليبك..... هو الحياة. |