CET 00:00:00 - 16/03/2009

مساحة رأي

بقلم / د. ناجى فوزي
"لا تدينوا لكي لا تدانوا"
هى وصية إلهية أوصانا بها إلهنا وهو له المجد يتمم رسالته الخلاصية على الأرض، ولكن لأي عاقل بغض النظر عن أفكاره وعقائده الدينية أن ينكر قوة هذه الوصية الإلهية وجدواها معاً، ولكن هناك على الأزمان من يتخذ هذه الوصية حجة لكي يمنع أي إنسان من "حق النقد البشري" فيما يتصل بشئون حياة الإنسان وخيرها على الأرض، ومن يكرّس هذا النوع من الحجر الفكرى يتغافل عن تلك الوصية الإلهية أيضاً، بأن "أعطوا إذاً ما لقيصر وما لله لله" فمن المفترض أن علاقة الإنسان الروحية بخالقه -أياً كانت عقيدة هذا الإنسان الدينية- لا تمنعه من أن ينظم شئون حياته الأرضية بما يتسق مع ظروفه ككائن بشري له كيانه الذاتي وعضو في الجماعة الإنسانية في نفس الوقت.......إلخ.
إن الإرتكان إلى "التفسير المغلق" للوصية الإلهية "لا تدينوا لكي لا تدانوا" هو أمر يؤدي بالإنسان إلى أن يكون كائناً سلبياً، فهو يمكن أن يخشى "فعل النقد" أو "فعل التصحيح" إذا اعتقد أن في ذلك نوعاً من "الإدانة" التي تنهيه الوصية الإلهية عنها، فإذا كان الأمر كذلك فمن أين للبشر أن يستطيعوا أن يتقدموا في حياتهم على الأرض بما يتفق مع "صيانة" هذه الحياة التي هي "جوهرالعطية الإلهية" الإنسان على كل الأحوال؟!

لننخطر اخطراراً قسرياً للولوج إلى موضوعنا عبر هذه المقدمة المقصورة حتى نتذكر دائماً أننا نتعامل –هنا– مع الفكر الإنساني في جانبه النسبي (شئون العالم) وليس جانبه المطلق (شئون العائد الدينية), وهو الأمر الذي يتيح لنا أن نتمسك بالحق في مراجعة الوقائع التاريخية المحققة والمتفق عليها من خلال الوثائق؛ فالتاريخ -لمن يعى معطياته بجد- هو باب المستقبل، يعمل بين جوانبه دروساً لمن يريد أن يعرف وأن يتعلم المعرفة، وتاريخنا في الوطن المصري يشير بكل وضوح إلى أن جانباً غير هين من "هوان" هذا الوطن يعود إلى غير قليل من التصرفات التي اقترفها أجدادنا المصريون على مدار زمن تحقيق الدولة المصرية عبر تقلباتها المختلفة, وهي تصرفات يدفعنا إدراكنا لها بالعمق المناسب إلى أن نرى فيها خطايا في حق الوطن المصري كانت نتاجاً قصدياً حتى ولو كانت ناتجة عن قصور في الوعي, فعلى كل حال فإن قصور الوعي لدى القائم (أوالقائمين) على أمر الوطن هو بمثابة الخطية.

إن الأكثر إلحاحاً على الظهور من خطايا أجدادى هما أمران على جانب كبير من الخطورة, أحدهما هو اتخاذ الدين مطية لتسلط الحاكم في مصر على المحكومين من المواطنين المصريين, سواء كان الحاكم وطنياً من مصر أو أجنبياً من خارجها, وهو الأمر الذي يمكن أن يسمح للحاكم ذاته بإحداث تصرفات من شأنها أن تؤدي إلى كوارث وطنية -كما سنطالع ذلك بعد-، والأمر الآخر هو استعانة الحاكم -سواء المصري أو غير المصري- بغير المصريين لتوطيد حكمه على أرض مصر أمراً مفهوماً, فإنه من غير المقبول أن يلجأ الحاكم المصري لاستخدام المرتزقة الأجانب رجالاً له من العسكريين.
في البداية كان هناك نوع من الإستقرار السياسي المُقترن بالإستقرار العقائدي في مصر, وذلك كان من شأنه تعضيد الإستقرار الإجتماعي بين المصريين, وذلك بدءاً من دولة العصر العتيق في مصر (3200 – 2880 ق. م) التي تضم الأسرتين الملكيتين الأولى والثانية في حكم مصر؛ بدءاً من توحيد شطري مصر الشمالي (الوجه البحري/ الدلتا) والجنوبي (الوجه القبلي/ الصعيد) تحت سلطان الملك "نعرمر" (المشهور باسم الملك مينا), واستقرار حال الوطن تحت الحكم المدني بعد انقضاء مرحلة الحروب العسكرية التي انتهت بتوحيد الشطرين المصريين, خاصة أن هذا الملك بدأ تنظيم حكمه إدارياً ودبلوماسياً متوازياً مع الجميع بين آلهة الوجهين القبلي والبحري في تاج واحد يجمع بينهما، وكما عرفت مصر الكتابة بدءاً من هذا العصر, فقد استقرت فيها المدنية للمصريين القدماء, فضلاً عن تقدمهم المعرفي في الفلك وتقسيم الزمن السنوي إلى فصول وشهور وإطلاق الأسماء عليها, وقد ارتقى المصريون بذلك كله ليصلوا إلى ذروتهم الواضحة لاحقاً, وعلى نحو خاص في فترة الأسرة الرابعة, أي عصر بناة الأهرام ذات الضخامة الإستثنائية في معمار العالم حتى مطلع القرن العشرين.

وإذا كان تاريخ المصريون القدماء يشير إلى فترات من الضعف السياسي, وصلت إلى حد قيام انتفاضات شعبية فوضوية خطيرة, وكان من أشد عواقبها المفجعة تفكك الدولة إلى مقاطعاً مستقلة، فإن الأمر اللافت للإنتباه هو أن الملك المصري "أمنحوتب الرابع" الذي أصبح معروفاً باسم "إخناتون" هو الحاكم المصري الذي فجّر أول موجة تاريخية من الصراع الديني في مصر؛ حيث أبطل العبادات المعروفة في ذلك الوقت وكانت قد نالت شعبية واتفاقاً بين المصريين في نفس الوقت, وهي عبارات "العائلة الأوزورية" (أوزوريس, إيزيس, وابنها حورس) والإله "آمون".
وإذا كان يحسب لصالح "امنحتب الرابع/ إخناتون" أنه صاحب أول ذروة للفكر الديني في تطوره نحو تصور فكرة الإله, وهو تجريد "الإله" من صوره المتعددة, التي تأخذ أسماءً مختلفة دالة على هذا التعدد, وذلك في الإتجاه إلى فكرة "التوحيد" في رمز واحد للمعبود وهو صورة الشمس المشرقة "آتون"، إلا أن ما قام به "إخناتون" من هدم للمعابد الخاصة بالآلهة الأخرى ومحاولات محو أسماء هذه الآلهة من على جدران المعابد القائمة, وهو الأمر الذي نال بصورة مباشرة من مشاعر معابد هذه الآلهة -خاصة كهنة "آمون" و"أوزوريس"- ثم ما قام به "إخناتون" من تأسيس عاصمة جديدة للبلاد لتكون مقراً رئيسياً لعبادة "آتون", كمدينة مُنزلة عن بقية الوطن -مُخصصة لممارسة العبادة فحسب- أي أننا بصدد محاولة سياسية مُحكمة لتديين المجتمع لصالح عبارة معينة, مع ترك بقية مصالح الوطن الحقيقية الأولى بالرعاية عارية من هذه الرعاية؛ الآمر الذي كان من شأنه إهدار كل ما سعى إليه أسلاف "إخناتون" من حكام وطنيين, وعلى رأسهم "أحمس" و"تحتمس الثالث", لتحقيق رفعة الوطن المصري وتقدمه, خاصة تأمين حدوده وتحديد سكانه الوطنيين وتأكيد فكرة الأمن القومي لمصر من خلال تأمين إمتدادات رقعة الوطن الحيوية في إتجاه الشرق وفي إتجاهي الغرب والجنوب, فضلاً عن التقدم العلمي والمعماري والقانوني أيضاً، وكان من شأن ذلك كله هو "المساس بهيبة الوطن المصري في مواجهة الشعوب الأخرى" الطامعة في خيراته وكل إمكانياته الحضارية.

ويذكر التاريخ أن حالة المعابد المصرية قد وصلت إلى أعلى درجات الثراء فى عهد الملك "رمسيس الثالث" (الأسرة العشرين) الذي تولى حكم مصر عام 1182ق.م, لتبلغ ممتلكات هذه المعابد من أراضي مصر الزراعية إلى ما يقرب من 12% من إجماليها، كما يذكر التاريخ أيضاً عدداً من الوقائع التي تتناسب مع تنامي سلطة الكهنة في مصر, حيث تكونت في العاصمة المصرية "طيبة" حكومة يتولى الكهنة رئاستها؛ حتى أنهم تلقبوا بألقاب الملوك المصريين واتخذوا من السمات ما يؤكد ذلك, مثل وضع أسمائهم في الإطارات المشهورة في نقوش الكتابة المصرية المقدسة, تلك الإطارات التي تشير إلى درجة القداسة الخاصة بصاحبها وتُعرف باسم "الخراطين". ولأن هؤلاء الكهنة لا يستطيعون بسط سيطرتهم السياسية (كحكّام) على كل أرض مصر, لذلك فإن سيطرتهم لم تتجاوز مصر الوسطى لكي يسمح كل ذلك بأن تقوم في بقية أرض مصر حكومة أخرى برئاسة ملك آخر, أى أن "تقسيم حكم مصر" إلى ما يشبه ولايتين كبيرتين هو أمر يرجع إلى تنامي سلطات رجال الدين من كهنة المعابد, وهو نظام حكم استمر لما يقرب من المائة والثلاثين عاماً, أي أن رجال الدين فى سبيل تأكيد سلطاتهم الأرضية باسم الدين لم يبالوا بتقسيم الوطن ذاته، وفضلاً عن ذلك فقد كان من أهم آثار وجود "الكهنة الحكام/ الملوك" هو الإعتماد على ما يسمى "بنبؤات الآلهة" في تسيير كل شئون الحكم, وهو الأمر الذي امتد إلى ثقافة المواطنين البسطاء أنفسهم؛ لكن يعتمدوا في أبسط شئون حياتهم على "تنبؤات الآلهة", سواء كانت آلهة محلية (أقاليم - مدن – قرى) أو عمومية ( مثل "آمون"). (ملاحظة تفرض ذاتها: هل لنا أن نقول ما أشبه الليلة بالبارحة؟).

ويذكر التاريخ أن هناك حكاماً أجانب قد بدأوا يسيطرون على مقاليد الأمور في مصر منذ عام 945ق.م (الأسرة الثانية والعشرين), نتيجة لتسللهم للبلاد على مدى مئات من السنين (منذ نهاية القرن الثالث عشر ق.م), إلى بداية الأسرة التاسعة عشر, واللافت للإنتباه أن هؤلاء الحكام الأجانب استطاعوا أن يبسطوا سيطرتهم هذه من خلال استغلال علاقة المصريين العميقة بالدين, لذلك تعمد هؤلاء الحكام أن يظهروا إهتماماً فائقاً بالديانة المصرية وبمعابدها؛ فقد كان لهم في الأسرة الواحدة والعشرين -السابقة عليهم- أسوة؛ نصف مصر. اذ حكم الكهنة من خلالها, كما ذكرنا آنفاً لذلك كان هؤلاء الحكام الأجانب يتعمدون القيام بتعيين واحد من أبنائهم في منصب الكاهن الأكبر "لآمون", لكي يضمنوا السيطرة على الثروات الهائلة المخصصة لمعبد هذا الإله, بل وصل بهم الأمر في هذا الشأن إلى حد تعيين بناتهم كاهنات؛ لضمان سيطرتهم على المعابد؛ باعتبارها مفتاح الحكم في مصر في هذه الفترة, وإن كان الأمر لم يمنع قيام أهل العاصمة "طيبة" بالذات بثورات متكررة ضد هؤلاء الملوك الأجانب.
(وللحديث بقية)

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق

الكاتب

د. ناجي فوزي

فهرس مقالات الكاتب
راسل الكاتب

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

مواضيع أخرى للكاتب

خطايا أجدادي

ثقافة التغيير وتغيير الثقافة

على سبيل التعارف

جديد الموقع