بقلم: المستشار نجيب وهبة
كان الشِرك يشمل أنحاء شبه الجزيرة العربية. ونضيف عمّا عُرّف من ديانات أخرى فنقول كانت المجوسية والصابئية واليهودية.
(المجوسية) ديانة قدماء الفرس الذين كانوا يعبدون النار ويرون فيها صورة اللاهوت، ويقرنون بها عبادة النور.
(الصابئية) عبادة النجوم والشمس والقمر والسيارات السبع وانتشرت في جنوب شبه الجزيرة.
أما (اليهودية) دخلت في أزمنة مختلفة واستوطنت في بعض جهات شبه الجزيرة, وعلى الأخص بعد جلاء بابل لما فر بعض بني إسرائيل من وجه الأشوريين, فتوغلوا في أنحاء العرب وحدث مثل ذلك بعد خراب أورشليم على يد الرومان, إذ تشتت شمل اليهود.
ودخلت النصرانية شبه الجزيرة وأقدم الآثار لا تخلو من الدلائل على أن العرب نالوا شيئًا من أنوارها منذ بزوغ شمسها، ولعل أول من استحق أن ينظم من العرب بين تبعة السيد المسيح أولئك الشيوخ الذين عرفوا بالمجوس. فأتوا إلى بيت لحم وأهدوا الرب ألطافهم وسجدوا له في مهده. أما كونهم من العرب أو على الأقل بعضهم, فلنا في ذلك عدة بينات ترجح هذا الرأي إن لم تجزم به قطعيًا, فمن ذلك أقدم نصوص الآباء والكتبة الكنسيين من القرن الثاني للمسيح إلى القرن الخامس الذين يجعلونهم عربًا.
وهكذا فسر هؤلاء الكتبة أية أشعياء النبي عن المسيح "كثرة الإبل تغشاك بكران مدين وعيفة كلهم من شبأ يأتون حاملين ذهبًا ولبانًا ومرًا " وعليها تدل الألطاف التي قدمها هؤلاء المجوس للمسيح من مرافق بلاد العرب.
ولا ريب أن العرب الذين حل بينهم هؤلاء النصارى أخذوا شيئا من تعاليمهم واستضاءوا بأنوار دينهم.
والديانة التي كانت عليها أمم بادية الشام وقبائلها فكانت خلطا من أديان الوثنية. فكان اليونان والرومان أتوا بمعبوداتهم المنوطة بالسيارات كالمشترى وزحل وعطارد والزهرة والمريخ فأكرموها إكرام أجدادهم ومواطنيهم لها في أثينا ورومية.
وفي غضون ذلك ظهرت النصرانية وقامت لمناهضة تلك الأديان كلها دون أن ترضى أن تختلط بها أو تبادلها بشيء.
والمرجح أن المسيحية دخلت بلاد العرب من غربي شبه الجزيرة من جهة الشام. والظاهر أنها دخلت أولاً في حاضرة "حوران" أعني "بصرى". وصرح بالأمر المقريزي في كتاب الخطط والآثار (ج 2 ص 483), فروى عن متى العشار "أنه سار إلى فلسطين وصور وصيداء وبصرى" وقال ابن خلدون في تاريخه (2:150) أن برثلماوس بعث إلى أرض العرب والحجاز.
ومما يثبت ارتقاء النصرانية واتساع دائرتها في بادية العرب أن منها خرج أول قياصرة الرومان النصارى, ونريد به "فيلبوس" العربي وكان نصرانيًا كما تشهد على دينه الآثار التاريخية، الذي ملك على رومية السنة 244-249 وكان أصله من بصرى ثم تجند في جيوش الرومان. ومن أعماله تشييد مدينة عمان وحوران, ودعاها باسمه ونالت بهمته النصرانية سلامًا.
كل ما سبق قد تم قبل القرن الرابع. فلما نالت النصرانية حريتها وخرجت ظافرة من الدياميس زاد الدين بذلك رونقًا وعزًا في بادية العرب وكافة مدنها، ولنا أداة على ذلك في الكنائس العديدة التي تشيدت بكل أنحاء شبه الجزيرة وكثيرون وصفوا هذه الآثار ورسموا تصاويرها وذكروا تواريخها. ومن هذه الآثار مئات من الكتابات اليونانية واللاتينية بين القرن الثاني والقرن الرابع وجدت في مواضع أسماء كنائس وأساقفة ووجها من النصارى وعليها رموز نصرانية كالصليب وأول حروف اسم المسيح.
وبين تلك الكتابات كتابة عربية تاريخها 568 للمسيح وجدت في حوران.
وفي القرن الخامس أخذ الرهبان يعيشون عيشة اجتماعية بعد أن كانوا يعيشون منفردين في الأقفار. والمرجح أن الديورة التي ذكرها حمزة الأصبهاني وأبو الفداء وغيرهما بنيت في هذا الزمان. هذا ولا ندعي أن النصرانية كانت صافية خالية من كل شائبة وخلال ولكن بدع تسربت إلى تلك الجهات وكدرت صفاء الإيمان بما أدخلته من المعتقدات الباطلة. |