بقلم: منير بشاي
في الرابع من يوليو من كل عام تحتفل أمريكا بعيد استقلالها، مثل معظم الناس رفعت العلم الأمريكي بفخر على بيتي وفي المساء تمتعت مع أسرتي بمشاهدة الصواريخ التي تضيء السماء بالألوان الباهرة احتفالاً بهذه المناسبة، وأحسست برغبة أن أعبر عن مشاعري تجاه هذا البلد فجلست لأسطر هذه الخواطر.
وأعلم مسبقًا أن كتابة هذه المقالة مخاطرة كبيرة من جانبي، فمن المحتمل أن تفتح عليَّ أبواب جهنم من فئات كثيرة من أبناء بلدي أمثال القومجية والعروبية والذين يرتزقون من كراهية أمريكا، بل وحتى من بعض الأقباط المتأثرين بهؤلاء جميعًا. فكيف أجرؤ على حب ما يطلقون عليه الشيطان الأكبر؟ ولكن مهما كانت العواقب فكلمة الحق يجب أن تقال.
ولئلا يفهم البعض أن حبي لأمريكا معناه كراهيتي لمصر، أؤكد أن حبي لبلدي الثاني أمريكا لا يتناقض مع حبي لبلدي الأول مصر، وطيلة حياتي في أمريكا التي تقترب من أربعة عقود لم أقابل أمريكيًا طالبني أن أكره مصر كإثبات لحبي لأمريكا، فمحبة الواحدة لا تتناقض مع محبة الأخرى ومن ليس له خير في بلده الأصلي لن يكون له خير في بلده الجديد.
ومحبتي لأمريكا لا تعني أنني أعيش في وهم فأعتقد أن أمريكا هي جنة الله على الأرض، وأنه لا يسكنها سوى الملائكة أو أن أغمض عيني عن ما فيها من عيوب... أمريكا تعاني من كل مشاكل الدنيا ومن الأمريكيون من يرتكبون كل الجرائم التي يرتكبها بني البشر، ولكن الفارق أن أمريكا لا تدعي الكمال وتشجع النقد الذاتي ومراجعة النفس وتعترف بالأخطاء وتسعى لتصحيحها ونظامها السياسي والاقتصادي يسمح بالمنافسة وتقديم كل ما هو مفيد وهذا هو سر نجاح أمريكا وتفوقها. والإنسان الأمريكي العادي مخلص وأمين يحب الخير ويعشق الحياة ويسعى للسلام ويعبد العمل، والمجتمع الأمريكي مليء بما هو طيب ونادرًا ما تصادف فيه ما هو قبيح.
وفي اعتقادي أن كثيرًا من التجريح الذي يوجه لأمريكا إنما ناتج عن غيرة وحسد. وأزعم أن الكثيرين ممن يكتسبون معيشتهم من مهنة شتم أمريكا سيقفزون فرحًا لو أتيحت لهم فرصة الهجرة لها وأعلم أن البعض مستعد أن يدفع ذراعه الأيمن ثمنًا مقابل الحصول على هذه الفرصة.
كنت أعرف بعض مزايا أمريكا قبل هجرتي لها ولكن بعد أن عشت فيها أشهد أن "النصف لم أخبر به" بل وأكثر... لقد عرفت كيف أن بلدًا يمتلك أكبر قوة ضاربة على وجه الأرض ومع ذلك لم يطمع في الاستيلاء على شبر من أرض بلد غيره.
وقد حررت أمريكا شعوبا كثيرة حول العالم ولم تستعمرها بعد ذلك، حررت أوربا من هتلر والكويت من صدام والعالم كله من الشيوعية وكسرت شوكة القاعدة وصيرتهم مثل الفئران يعيشون في الجحور كما أن أمريكا تملك أقوى اقتصاد في العالم ومع ذلك لا تحتفظ بثروتها لأبنائها بل تشارك بها في مساعدة كل محتاج على وجه الأرض ودائمًا هي الرائدة في مساعدة ضحايا المجاعات والزلازل والتسونامي وغيره.
وزاد إعجابي بأمريكا عندما رأيت كيف تصرفت بعد أن اعتدى عليها في 11 سبتمبر 2001 وقتل نحو 3000 من أولادها وتحطم برجي مركز التجارة ومبنى البنتاجون عرفت مدى ضبط النفس الذي مارسته. وكنت أظن أنها سترسل صواريخها الذرية إلى أفغانستان فورًا (وتجيب عاليها واطيها) وتعيده إلى العصر الحجري. وأظن أن هذا ما كانت تفعله أي دولة في قوتها إن اعتدى علبها لتعطي من يفكر في الاعتداء عليها درسًا لا ينساه. ولكن مر وقت طويل من الدراسة والتخطيط لمعرفة كيف يمكن التعامل مع المعتدي دون التسبب بأذى للأبرياء الذين يعيشون حوله.
لفت نظري في أمريكا المبادئ التي تبثها في أبنائها كجزء من برامج التعليم مثل الأمانة والصدق ونصرة الضعيف والمظلوم وهذا تحسه في التعامل مع الناس.
أذكر في بداية هجرتي أنني تعرضت لحادث سيارة وأنا في طريقي للعمل صدمتني سيارة أخرى وتحطمت كلاً من السيارتين وكان الطرف الآخر هو المخطئ، خرجت من السيارة المحطمة ووقفت في مكاني في حيرة أفكر في كيف أثبت صحة موقفي ومن سيصدقني أنا الشاب الأجنبي ضد الطرف الآخر الذي هو رجل أمريكي متقدم في السن. وبينما أنا واقف في حيرتي إذ برجلين أمريكيين يأتيان إلى ويعطياني الكارتات الخاصة بهما ويعرضان استعدادهما للشهادة لصالحي. وكان واحد منهما نائب رئيس شركة كبيرة ضحى بوقته الثمين في سبيل أن يقدم شهادة حق لصالح إنسان لا يعرفه دون عائد يعود إليه شخصيًا سوى إحساسه بالمسئولية للقيام بهذا العمل الإنساني.
وذات مرة تعطلت سيارتي في الطريق السريع في ساعة متأخرة من الليل وكان معي زوجتي وأطفالي الاثنين ووقفنا على جانب الطريق المهجور ننتظر تاكسي يأخذنا للبيت لمحتنا سيارة بها رجل وزوجته فوقف يستفسر عن مشكلتنا. وبعدها عرض أن يوصلنا إلى بيتنا وكانت المسافة تزيد عن 60 كيلو وتستغرق حوالي ساعة ونصف ذهابًا وإيابًا وعندما وصلنا للبيت طلبت منه أن يدخل ليستريح فاعتذر بأنه مستعجل، حاولت أن أقدم له مالاً فرفض وقال لي ما عملته معك اعمله مع إنسان آخر محتاج. شكرته وقدمت له هدية من منتجات خان الخليلي ومضى في طريقه.
في احتكاكي بهذا المجتمع سواء على مستوى الجيرة في السكن أو الزمالة في العمل أو العلاقة مع الرؤساء لم أجد غالبًا غير الود والإحسان، انطبعت هذه المثل على أخلاقيات الناس لأنه الجو العام السائد وقد تعاملت مع رؤساء كثيرين في العمل ولم يأخذ أحدهم حقيقة أنني أجنبي ضدي.
وأذكر أنه كان لي مرة رئيسًا يهوديًا وكنّا ندخل كثيرًا في مجادلات سياسية حامية هو يدافع عن إسرائيل وأنا أدافع عن الفلسطينيين وتعجبت أنه في نهاية العام أعطاني أفضل تقرير حصلت عليه في حياتي بل وكتب توصية لترقيتي دون أن أطلبها منه،، هذا المسلك ظهر في تعاملاتي أنا أيضًا فقد كان تحت رئاستي مرة شاب من أصل يهودي ولم تؤثر اختلافاتنا في الرؤيا السياسية على علاقتي به سواء داخل العمل أو خارجه فكنا أصدقاء نتزاور خارج العمل وكان أيضًا هناك شاب مصري مسلم يعمل تحت رئاسة زوجتي هذا أيضًا كنا نتقابل معه وزوجته ولم يفكر أحدنا في الخلافات الدينية أو الأيديولوجية لأن المناخ العام في أمريكا خفف من هذه النعرة إلى حد كبير.
وعندما أردنا شراء كنيسة لم تكن هناك عقبة على الإطلاق لا خط همايوني ولا موافقة الأمن. والجو العام لم يكن يدعو إلى التعصب لدين بالذات فإلى جوار الكنيسة كان هناك معبد للسيخ وأمامها معبد لليهود وليس بعيدًا عنّا جامع للمسلمين والجميع يتعايشون ويتزاورون معًا في سلام.
لا شك أن أمريكا قد تمتعت ببركة الله نتيجة ما تقدمه من خير للبشر ومع أن أمريكا لا تحكم بمرجعية دينية ولكن الله هو محور كل شأ فيها ومع ذلك لا يلوح لك إنسان في أمريكا بما يجب أن تعمله أو تقوله أو تلبسه أو تأكله إرضاء لله فهذا متروك لعلاقة كل إنسان مع ربه ولكنك في أمريكا لا تخطئ ملاحظة أن هذا البلد مؤسس على حب الله وخير الإنسان.
ملحوظة ختامية: بعد كل ما لقيناه في بلدنا مصر والذي تسبب في أن نهاجر بلدنا وأهلنا مع كل ذلك فنحن ما نزال نحب مصر وسنظل نحبها...
بلادي ولو جارت عليَّ عزيزة وأهلي ولو ضنوا عليَّ كرام
ولكن كيف لإنسان يجري في عروقه شيء من الأصالة والوفاء أن ينكر فضل أمريكا أو أن يخجل من أن يصرح بهذا علانية للناس؟
Mounir.bishay@sbcglobal.net |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|