CET 00:00:00 - 20/07/2009

مساحة رأي

بقلم: محمود عزت
تمثل صور التعبير الأدبي أهم مصادر الإبداع العربي تاريخيًا، فكان الشعر ديوان العرب فهم لم يعرفوا الصور الأخرى من ألوان الأدب من قصة أو مسرحية أو الفنون من تصوير أو نحت إلا متأخرًا بعد ترجمة كنوز الأدب والفلسفة اليونانية واختلاطهم بالحضارة الأوروبية مع الفتوح العربية، ومن ثم فقد جاء الإنتاج الأدبي العربي في محصله انعكاسًا للبيئة العربية الأصيلة وللتيارات الثقافية الوافدة من الخارج على أيدي المترجمين العرب الذين حاولوا نهل ونقل الأفكار إلى الثقافة العربية.
لا أظن أن على المبدع أدبًا أو فنًا أن يلحق بما أبدعه مذكرة تفسيرية يشرح فيها إبداعه، فالإبداع هو نوع من أنواع الإلهام أو النور الذي يتقدم في ذهن الأديب أو الفنان فيدفع إلى تسجيل هذا النور في أي صورة شاء شعرًا أو نثرًا أو قصة أو مسرحية أو لوحة أو قطعة موسيقية.

ولكن ما هي الحدود أو الشروط التي ينبغي على المبدع لهذه الألوان توخيها عند الإبداع أو عند تعبيره عن خلجات نفسه أو عقله؟!
أعتقد جازمًا أن هذا السؤال يتناقض مع طبيعة الإبداع الأدبي أو الفني تناقضًا منطقيًا.. فالإبداع بطبيعته كائن حر طليق لا تقيده حدود أو شروط سوى الالتزام بعد خروج المصنف عن الأخلاق والآداب العامة السائدة في المجتمع.. أما ماعدا ذلك من حدود فهي ما يقوم به الناقد الأدبي أو الفني عند تناوله للمصنف.
وهنا فالمدارس النقدية كثيرة ومتعددة بل ومتداخلة، فثمة مدرسة تحاول قراءة المصنف قراءة نفسية بأن تعود للمبدع نفسه.. حياته.. ثقافته.. بيئته الخاصة لتدرك التأثيرات الشخصية للمؤلف على ما أنتجه!!
كما أن هناك مدرسة أخرى تبحث المصنف باعتباره مرآة للحالة الاجتماعية التي أنتج فيها المصنف، فتذهب لمعرفة الوقت التي أنتج فيها المبدع ما أبدعه لمعرفة تأثير العوامل المحيطة بالمبدع من عوامل سياسية أو اقتصادية أو ثقافية بشكل عام فيأتي الإبداع في ضوءها!

وهناك مدرسة ثالثة تركز جهودها على المصنف الأدبي أو الفني نفسه.. فترى هل استوفى الأديب أو الفنان الشروط "الفنية" لمنتجه من شعر أو مسرحية أو قصة أو نثر أو موسيقى أو فن تشكيلي بما يدرس في كليات الآداب أو الفنون الجميلة!
فهل التزم مثلاً الشاعر بالعروض والقافية والموسيقى الداخلية؟ أو هل التزم الأديب عن كتابته لروايته بما يسمى بالوحدة الموضوعية بأن يكون هناك خط عام تسير عليه الرواية من أولها إلى أخرها فضلاً عن تماسك النسيج الأدبي وتكامله في هذه الرواية أو المسرحية؟
وبالطبع هناك مدارس أخرى للنقد منها ما أبدعه المفكر والناقد العظيم د. محمد مندور مما يطلق عليه بالقراءة الثانية .. وهي مدرسة واضحة من اسمها.

ومن هنا فإن عملية الإبداع هي المرحلة التي لا يسأل فيها الأديب أو الفنان عمّا أنتجه وربما لا يسأل بعدها أيضًا إلا قليلاً.. فعندما ينتهي من إبداعه تبدأ المرحلة الثانية وهي من عمل الناقد الذي يسعى من خلال ما أوتي من أدوات للتحليل إلى استخراج ما احتواه المصنف من مدلولات أو معاني ظاهرة أو خافية، وفي أحيان كثيرة تكون هذه المدلولات خافية عن المبدع نفسه! لأنه يبدع عفو الخاطر ولا يجلس في معمل ثم يضع العروض الشعرية ثم يغمرها بالقافية ثم يتبعها بالموسيقى الداخلية... وربما أضاف إليها بعض المحسنات البديعية ليخرج لنا شعرًا!!
وغالبًا ما تقاس قيمة العمل الأدبي أو الفني بمقدار ما أوحي به أو أثاره من انطباعات في ذهن المتلقي.. وفي هذا يمكن الإشارة إلى مدرسة في الفن الحديث تعتمد على ذات الشيء وهي المدرسة الانطباعية، والتي نشأت كثورة ضد المدرسة التقليدية أو الشروط الأكاديمية للفن، قام بها فنانون منهم كلود مونيه وجوجان واديجار ديجا واوجست رينوار وفان جوخ وغيرهم....

وربما أسهمت النظرة المتشددة أو التقليدية سلبًا في تعطيل مسيرة إبداع بعض الشعراء العرب والمصريين من مبدعي الشعر الحديث أو الحر.. وذلك عندما أمر أحد أقطاب الأدب العربي وكان يرأس آنذاك لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة والأدب بمصر بإحالة إبداع أحد أعظم الشعراء المصريين إلى لجنة النثر لأنها من وجهة نظره لا تلتزم بأصول وقواعد الشعر العربي!
ولولا عناد ومثابرة هؤلاء الشعراء في سبيل فرض وإثبات جدارتهم الإبداعية للشعر الحديث على الساحة الأدبية في مصر، ما ظهر الشاعر العظيم صلاح عبد الصبور.. ولا ظهر الكثير من عظماء الشعر العربي الحديث أمثال المبدع نزار القباني ولا غيرهما..
فهل نال من عظمة الشعر الحديث عدم التزامه القافية والعروض والموسيقى الداخلية؟!
بالتأكيد الإجابة "بلا" كبيرة في وجه هؤلاء المتشددين التقليديين الذين كادوا يهزموا إبداع الشعر الحر!

بل أن العكس هو الصحيح تمام.. فربما كان التزام الشاعر بهذه "الأصول" من وجهة نظر هؤلاء المتشددين قد تضطر الشاعر إلى أن ينتج شعرًا مقبولاً شكلاً ومرفوض موضوعًا لخلوه من المضمون!
ومَن منّا لم يستمتع بالشعر العبقري للعظيم المبدع صلاح جاهين الذي أبدع للإنسانية وليس لنا فقط أروع ما يمكن إبداعه في كل ألوان الأدب والفن والذي كتب بمشاعره وحسه المرهف شعرًا لا يبرزه شاعر آخر في عمقه وبساطته وروعته.. وكان يبدع لنا يوميًا رسمًا كاريكاتيريًا ينقد فيه أحوال المجتمع والعالم... يكفي لمن يراه يوميًا في جريدة الأهرام من قراءة مقال!
ولعله من حسن الطالع أن إبداع صلاح جاهين قد ظهر بعد اختفاء أصحاب النظرة التقليدية للشعر الذي كادت نظرتهم هذه أن تحبس عنّا روائع الأدب والفن!

وتحضرني هنا لعنه تأثرت لها وحزنت.. وهي إنني شاهدت قريبًا على إحدى قنواتنا المتخصصة لقاء مسجل مع الشاعر الرائع صلاح جاهين مع أحد كبار إعلاميينا الذي كان يوجّه حديثه لهذا الشاعر بوصفه زجال... فكان يكرر قائلاً وماذا عن الزجل الذي قلته في المناسبة المعينة؟ ويشير إلى إبداعه الشعري بكلمة "الزجل"! وليس هذا طعنًا في الزجل فهو لون أيضًا من ألوان الشعر ولكن لا ينطبق مجال على شعر صلاح جاهين... وكأن هذا الإعلامي الكبير يريد عدم الاعتراف به كشاعر.
حتى أنني لمست في نظرات الراحل العظيم بعض الحزن والأسف من هذا التجاهل له بوصفه شاعر وليس زجال كما عمد إلى ذلك الإعلامي الكبير!

محمود عزت
دبلوماسي مصري

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق