بقلم: سوزان قسطندي
يحكى القديس مقاريوس الكبير عن نفسه قائلا ً:
إنى فى حال شبابى كنت جالساً فى قلاية فى مصر، فأمسكونى وجعلونى قساً لضيعة (قرية)، وإذ لم اؤثر أن أتقلَّد هذه الرتبة هربت إلى مكان آخر، حيث كان يأتينى رجل علمانى تقى وكان يخدمنى ويبيع عمل يدىّ.
وفى يوم من الأيام حدث أن بتولاً فى ذلك المكان سقطت فى زنى وحملت، فلما أُشهِرَت سٌئِلَت عمن فعل معها هذا الفعل فقالت: المتوحد.. !!
وسرعان ما خرجوا علىّ وأخذونى باستهزاء مريع إلى القرية وعلّقوا فى عنقى قدوراً قذرة جداً وآذان جرار مسودّة مكسورة، وشهروا بى فى كل شارع من شوارع القرية وهم يضربوننى قائلين: إن هذا الراهب أفسد عفة إبنتنا البتول، اخزوه، وهكذا ضربونى ضرباً مبرحاً قربت بسببه إلى الموت، إلى أن جاءنى أحد الشيوخ فقال لهم: إلى متى هذه الإهانة، أما يكفيه كل ذلك خجلاً ؟! فكانوا يشتمونه قائلين: ها هو المتوحد الذى شهدت له بالفضل، أنظر ماذا فعل !!
وأخيراً قال والدها: لن نطلقه حتى يأتينا بضامن أنه يتعهد بالقيام بإطعامها ويدفع نفقة لولادتها إلى أن يتربى الطفل !!
فدعوت الأخ الأمين الذى كان يخدمنى وقلت له: إصنع محبة واضمنّى !! فضمننى ذلك الرجل، وأطلقونى بعد ذلك، فمضيت إلى قلايتى وقد كدت أن أموت.
ولما دخلت قلايتى أخذت أقول لنفسى: كدّ يا مقارة، فها قد صار لك امرأة، الآن يا مقارة قد وُجِدَت لك امرأة وبنون، فينبغى لك أن تعمل ليلاً ونهاراً لقوتك وقوتهم !!
وهكذا كنت أعمل دائماً قففاً وأدفعها إلى ذلك الرجل الذى كان يخدمنى فيبيعها ويدفع للمرأة، حتى إذا ولدت تنفق على ولدها.
ولما حان وقت ولادة الشقية مكثت أياماً كثيرة وهى معذَّبة، وما استطاعت أن تلد. فقالوا لها: ما هو هذا ؟! ما هو ذنبك فا أنتِ بعد قليل تموتين ؟! فقالت: إن كل ما أصابنى كان بسبب أنى قد ظلمت المتوحد واتهمته وهو برئ، لأنه ما فعل بى شيئاً قط، لكن فلان الشاب هو الذى تحايل علىّ وفعل بى هذا !!
فجاء إلىّ خادمى مسروراً وقال لى: إن تلك البتول ما استطاعت أن تلد حتى اعترفت قائلة أن المتوحد لا ذنب له فى هذا الأمر مطلقاً وقد كنت كاذبة فى إتهامى له !! وها أهل القرية كلهم عازمون على الحضور إليك ويسألونك الصفح والغفران.
فلما سمعت أنا هذا الكلام من خادمى، أسرعت هارباً إلى الإسقيط.. وهذا هو السبب الذى لأجله جئت إلى جبل النطرون.
إنتهى الإقتباس من سيرة القديس مقاريوس الكبير- كما جاءت فى كتاب بستان الرهبان.
والآن دعونا نحلل ونقارن.. نتساءل ونتعلّم.. نفهم فنحيا..
كيف نفتدى أنفسنا من العثرات ؟! وإلى أى منحنى خطر قد تقودنا العثرات ؟!
وهل من سقف للفضيلة ؟! وإلى أى مدى نقتدى بالقديسين ؟!
وهل الفضيلة حكراً على فئة من البشر دون الأخرى، وهكذا العثرة أيضاً ؟!
وهل من عوامل ضعف بشرى تجعلنا نشفع ونغفر للمسيئين إلينا ؟! وهل نفس تلك العوامل تجعلنا نبارك دون أن نؤلِّه رجال الله القديسين ؟!
كيف نحقق التوازن فى سلوكياتنا ورؤيتنا وأحكامنا على الأمور؟!
يقول الكتاب "الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رو3: 23).. ويقول أيضاً "لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا، لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة، ولنحاضر بالصبر فى الجهاد الموضوع أمامنا" (عب12: 1).
ماذا لو قبل الشاب مقاره رتبة القسيسية وعاش ككاهن مكرَّم فى أعين شعبه ؟! ربما كان قد جنّب نفسه تلك التجربة المؤلمة والصادمة فى مقتبل حياته العمرية والروحية كناسك متوحد مع الله؟! ولكن ربما أيضاً لم يكن التاريخ سيذكره كأب رهبنة عظيم بين القديسين ومؤسس نظام الجماعات الرهبانية فى منطقة الإسقيط (شيهيت بوادى النطرون) والذى دُعى أيضاً بإسقيط مقاريوس !!
ماذا لو لم يتّضع أبو مقار فى مواجهة تلك التجربة الصعبة ؟!
ما كان أسهل على شاب صغير السن وحديث العهد بحياة التوحد والخبرة الروحية على العموم أن يتذمّر معترضاً على كل شئ: أهكذا أطرق باب الوحدة مع الله فيرفضنى الله مسلِّماً إياى لأيدى زناة كاذبين وظلمة مفترين يحكمون علىّ دون تحقيق ويفتكون بى دون رحمة ؟! أهكذا أبدأ حياتى الروحية بنية سليمة نحو الله والناس فما لبثوا أن جعلونى زانياً وطالبونى بما ليس لى به شأن، فترى كيف سينتهى أمرى ؟! أهكذا أرفض العيش بكرامة كأب كاهن مكرم وأختر طواعية حياة النسك والبتولية والفقر الإختيارى حباً فى المسيح، فيتخلى عنى محبوبى ويسلمنى لأعوان إبليس الكذاب وأبو كل كذاب قتّال البشر منذ البدء ؟! أهكذا لم أجد قيروانياً يحمل عنى ومعى صليبى وعارى الذى لصق بى ظلماً، ويقف بجوارى مدافعاً عنى شاهداً بحسن أخلاقى مانعاً عنى تشهير وأذية هؤلاء الهمج الرعاع ؟! حتى خادمى الأمين وهذا الشيخ الذى تعاطف معى لإنكسار قلبى ما استطاعوا تبرئتى ولا منع ضرب الموت عنى ؟! ماذا سيقول عنىّ سائر الإخوة الرهبان والنساك والمتوحدين حينما يسمعون بأمرى ؟! ماذا سيقول عنى آباء الكنيسة ؟! ماذا سيقول عنى الناس فى كل مكان أذهب إليه فيكى يا مصر، فستلاحقنى الشائعات ؟! هذا لى موت من كل ناحية !! ملعونون أنتم جميعاً مع إبليس أبيكم !! يبدو أننى أخطات الطريق !! لقد فقدت الثقة بجميع الناس، وبالكنيسة إكليروس وعلمانين ، وبالرهبنة وآباء الرهبنة، وبالإنجيل والمسيح، وببلدى والمصريين، وبكل شئ حتى نفسى !! هذا الطريق الذى أنا سائر فيه وعر جداً، فلأهرب الآن !! بل وربما خير لى أن أهرب خارج البلاد أيضاً !! وهناك يمكننى تأسيس رهبنة خاصة بل وكنيسة خاصة بل ودين خاص عصِّى على ما يعتنقه هؤلاء الظلمة الكافرين !! وربما بعد أن أصير قوة عظيمة أعود لأنتقم لمظلمتى بيداى !!!
ربما كانت تلك الأفكار وغيرها تدور بعقل الشاب مقارة (مكارى بالقبطية، مكاريوس باليونانية، بمعنى الطوباوى- وهو من مواليد شبشير بأعمال منوف وعاش تقريباً فى الفترة 300- 390م)..
ولكن عجباً.. كان الشاب الطوباوى متواضعاً جداً، فحمل ما لايقوى على حمله إلا ملائكة أرضيون !!!
ربما خلع مقاره عنه لباس المتوحدين وقبل بصبر المتضعين إرتداء لباس العلمانيين كواحد منهم !! ربما زاد فى عمله اليدوى ليكسب أموالاً تكفى لدفع النفقة بهدوء الواثق فى الله !! وربما قد وصل الأمر إلى كاهن القرية فحرم مقارة من شركة الكنيسة !!
ولكن ما باله وقد أخلى ذاته، فتجلّى الله فى حياته وأعماله وأقواله.
بالطبع هذا المستوى العالى من الفضيلة ربما يناسب الرهبان والنساك والمتوحدين مَن زهدوا وتجردوا عن طموح الحياة الدنيوية، ولا يناسب العلمانييين.. فليس علينا أن نوافق على ما ينسبه إلينا الآخرون من إتّهامات ظلماً وبهتاناً، بل بالحرى نستنكر للجور والتعييرات الباطلة ونرفع لافتات الحق والعدل .. فما يجب علينا الإقتداء به ليس هو حرف ما فعله أبو مقار بل روحه- أقصد روح الإتضاع الكامن فى المواقف والمتمثِّل فى الثبات فى الطريق، وعدم الإهتزاز بسبب التجارب الحياتية المتنوعة بل والإستعداد لها، وعدم النكوص بالنذر الحياتى مع الله برغم العثرات الخطرة، وعدم الخوف أو الهروب من مواجهة التجارب التى يسمح لنا بها الله للتمحيص فيصيِّرنا كالذهب النقى، وعدم تعميم أو شخصنة الخطأ، والغفران وعدم الثأر للذات، والإيمان القوى بوجود وبعدل الله ضابط الكل...
ولكن حقاً كما قال مار إسحق "من سعى وراء الكرامة هربت منه، ومن هرب منها بمعرفة سعت وراءه"...
مبارك أنت من الله يا قديسنا العظيم مقاريوس الكبير.. كنت شاباً صغيراً، ولكنك كنت كبيراً فى إتضاعك.. وفى محبتك وفى غفرانك.. وفى صلواتك النقية ونسكياتك الخفية الحية لإرضاء الله فاحص القلوب (دون الرهان على طقوس أو عبادات مظهرية لإستجداء إستحسان ومديح الناس).. وفى إحتمالك للشدائد بصبر.. وفى رجائك بإلهك وإيمانك به وثبات عهدك معه...
أذكرنا فى صلواتك أمام عرش النعمة الذى أنت واقف أمامه، حيث "يضئ الأبرار كالشمس فى ملكوت أبيهم" (مت13: 43)
...
أهدى سيرتك المباركة إلى كل إخوتنا الواقعين تحت أحكام- كنسية كانت أم مدنية..
إن كنت أخى تستوجب الحكم التأديبى، فراجع نفسك.. "أذكر من أين سقطت، وتب، واعمل الأعمال الأولى" (رؤ2: 5).. تمسّك بما عندك، لئلا يأخذ أحد إكليلك" (رؤ 3: 11).. "يكون فرح فى السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة" (لو15: 7)..
وإن كنت تحت الحكم تعسّفاً وزوراً، فانتظر الرب، هوسيأتى ويخلِّصك.. لا تنتقم ليداك، النقمة للرب هو يجازى.. وهوذا قد أعد لك الرب مكانة عظيمة فى السماء كما على الأرض- ولكل شئ تحت السماء وقت.. "لأن هذا فضل إن كان أحد من أجل ضمير نحو الله يحتمل أحزاناً متألماً بالظلم، لأنه أى مجد هو إن كنتم تُلطَمون مخطئين فتصبرون بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون فهذا فضل عند الله" (1 بط 2: 19، 20)..
"ولكن كل تأديب فى الحاضر لا يُرَى أنه للفرح بل للحزن، وأما أخيراً فيعطى الذين يتدرّبون به ثمر بر للسلام" (عب 12: 11)..
"أذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله، أنظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثَّلوا بإيمانهم" (عب13: 7). |