بقلم: منال بولس
لا أعلم ما الذي دفعني لأعيد مشاهدة فيلم الطفل مارشللينو والذي كنت قد شاهدته منذ عدة سنوات حين كنت أخدم في مرحلة إبتدائي وتم حينها عرض هذا الفيلم على أبنائي في الخدمة، وأتذكر كم كانت دهشتهم بل ذهولهم لهذا الطفل المعجزي صاحب الإيمان الطفولي اللا محدود والذي قاده هذا الإيمان العجيب إلى اقتنائه الملكوت بين أحضان حبيبه ومخلصه يسوع..
تبدأ حكايته حين وجده بعض الرهبان طفلاً رضيعًا يتيمًا، فقد كل من كان حوله على اثر حرب في أحد المدن الإيطالية، وحملوه معهم إلى الدير، وحين فشلت محاولاتهم في العثور على أهله أو أحد يعرفه أو العثور على أسرة جيدة تستطيع تربيته قرروا أن يحتفظوا به بينهم ليتربى داخل أسوار الدير وخاصة أنه صبي أو( ذكر) فلا يوجد ما يمنع بقائه معهم..
ونرى كيف اختطف هذا الرضيع بطهره وبراءته قلوب الرهبان جميعًا، فكانوا يتناوبون السهر عليه وإطعامه وكان يلازمهم في صلواتهم، فقد تفتحت آذانه البريئة الصغيرة على ألحان صلواتهم وترانيمهم العذبة فكان يفيق ويغفو عليها..
وينمو الطفل وسط هذا الجو الروحاني العجيب وينمو معه حبه لآبائه الرهبان، فهو يعرف أن له عديد من الآباء هم رهبان الدير جميعًا ولكنه يفتقد لأم واحدة.. لم يحظ بحنانها الجسدي ولكنه أحس بوجود روحها بجانبه، فقد علم من أبائه الرهبان أن أمه هي صاحبة الصورة التي تحمل الرب يسوع.. نعم العذراء الطاهرة هي أمه والتي اعتاد أن يقضي معظم وقته بجوار صورتها داخل كنيسة الدير حيث يشعر أن هذه الكنيسة هي بيته وتسكنها أمه..
وفي عمر السادسة أصبح شوقه أكثر لهذه الأم الغائبة جسديًا، فقد شاهد حتى الطيور والحيوانات تنعم بحنان الأم بينما هو لا.. وفي أحد الأيام حضر إلى الدير أحد أشراف البلد وأعجب بالصبي وأراد أن يتخذه كإبن له، وبعد صلوات كثيرة قرر الرهبان أن يعطوه الصبي لينعم برعاية أسرية حقيقية هو في حاجة لها، ولكن لم يحتمل هذا البريء حياة الغنى والتملق، وما زاده كرها لها مشهد لم يحتمله قلبه الرقيق الطاهر حين قام هذا الكونت باصطياد أحدى الغزلان بطريقة وحشية ثم أكل لحمها وهذا لم يتعوده الصبى في حياته مع الرهبان، فقد تعود على أكل الرهبان البسيط النباتي والبعيد كل البعد عن الأكل الشهواني الحيواني.
فهرب الصبى لنفسه وصلى ليسوع بقلبه الطاهر حتى لا يضل الطريق إلى الدير، وبالطبع لم يتركه حبيبه الذي رأى قلبه الطاهر ذاك القلب المثالي الذي يطلبه الرب دائمًا ولكن عادة لا يجده ولكنه وجده عند هذا الطفل النقي، فحين نام في الطريق من التعب وتصادف مرور رهبان الدير وجدوه وحملوه معهم إلى الدير ثانية، ولكنه كان متعب جسديًا وتعب قلب رهبان الدير مع تعبه وكانوا يبكون في صلواتهم من أجل شفائه، وكيف لا وهو إبنهم المسكين..
لم يرض غرور ذلك الكونت أن يتركه الصبي فأيقن أنه ربما هرب للدير، فذهب ليبحث عنه هناك ولكن رهبان الدير قد تعلموا الدرس وآثروا أن لا يتركوا إبنهم مهما حدث, فقرروا أن يخبأوا الصبي في غرفة أعلى الدير، وياللتشابه العجيب.. فكما هرب يسوع من وجه هيرودس هرب أيضًا مارشللينو من وجه هذا القاسي وتقابلا لأول مرة معا في هذا القبو العجيب حين استيقظ مارشللينو خائفًا من صوت الريح والتي ضربت النوافذ بشدة، وإذ بقوة هذه الريح تزيح بستار كان يغطي تمثال الصلبوت حيث يسوع معلق على خشبة الصليب، فيراه مارشللينو وبكل عفوية يطلب منه أن يُسكت الريح لأن صوتها يخيفه، يالعمق إيمانك أيها الملاك الصغير, فقد أدركت بعقلك المحدود اللامحدود وخاطبت المصلوب وكأنك تراه بالفعل بعيون قلبك صاحب الإيمان الطفولي اللا محدود -فكم نُتهم في مسيحيتنا بأننا نخاطب أيقونات وصور وتماثيل ونُتهم بأننا نعبد أصنام ولكن هو الإيمان باللامرئي والغير محسوس عن طريق وسيط مرئي ومحسوس, إنه عمق الإيمان الذي قد لا يذوقه أو يشعر بقيمته إلا من ذاق نعمة المسيح, وأنت ادركتها بالفعل أيها الصغير-، وبالفعل تسكت الريح في الحال ومن هنا تبدأ الصداقة الفريدة والعجيبة بين البريء مارشللينو والمصلوب، فيحضر مارشللينو قطعة من الخبز ليعطيها للمصلوب في براءة طفل مثله ظانًا أن المصلوب قد جاع من بقائه طويلاً في هذا القبو، ويمد مارشللينو يده ليطعم المصلوب ولكنه يدرك أن يده مسمرة فيقرر أن يحررها له من المسمار، وعلى حسب إيمان قلبه المطلق وبراءته الغير محدودة تمتد يد يسوع لتأخذ منه الخبز..
ياه يا إلهي.. استطاع هذا الصغير أن يحررمن يدك المسمار وأنا كم مسمار أدقه في يديك يوميا بأفعالي!!!!..
ومرة أخرى يحضر مارشللينو للمصلوب كسرة خبز وبعض النبيذ وأما هذه المرة فيتحدث إليه المصلوب ويدعوه بان إسمه الجديد هو -مارشللينو خبز ونبيذ- بدلاً من مارشللينو فقط..
وتمر أيام ويزداد شك الكونت في تواجد مارشللينو داخل أسوار الدير رغم إنكار الرهبان لذلك، حتى يأتي يوم يقرر فيه هذا الشرير أن يقتحم الدير ويحاول إحراقه، فيقف الرهبان بكل إيمان يصلون بينما تشتعل النيران بداخل الدير ومارشللينو ينادى صاحبه للتدخل، وبالطبع لا بد أن يستجيب المصلوب لحبيبه وصديقه الصغير فتمطر السماء مطرًا غزيرًا لتطفئ ألسنة النار ويُسحل الكونت على الأرض بأن يجره حصانه بعيدًا وينجو الدير بمن فيه..
فرح الصبي بإستجابة صديقه السريعة وقرر أن يكافئه بأن يزيل إكليل الشوك من على رأسه، الذي طالما آلمه زمانًا بينما لا أزال أنا أزيد عدد الأشواك شوكًا على رأس المصلوب بخطاياى!!!
وحين نزع مارشللينو الأشواك وجد نفسه وقد وصل برأسه الصغير عند صدر مخلصه وحبيبه، فلم يدع هذه الفرصة فاتكأ برأسه البريء على صدر صديقه وحبيبه.. طوباك يا مارشللينو كم أحسدك على هذه اللحظات الرائعة التي اختطفتها باتكائك على صدر الآب الحنون كم نشتاق جميعًا لهذه اللحظات ونتوق انتظارا لها..
وحين ذاق هذا الطفل المعجزي البريء لحلاوة صدر فاديه طلب منه بدالة الابن البريء لأبيه أن يسمح له بأن يأخذه معه إلى سمائه حيث شوقه ليقابل أمه وأم فاديه.. وبالفعل لم يرفض له فاديه هذا الطلب فتحررا معًا من فوق الصليب الخشبي وانطلقا.. وحين أتى الرهبان ووجدوا الصليب فارغًا أدركوا المعجزة.. معجزة التحرر.. معجزة الإيمان الطفولي اللامحدود لهذا الطفل القديس..
نعم أحسدك يا مارشللينو.. فلم تحظ فقط بحضن الآب وأنت على الأرض إنما حلق بك حاملاً إياك بين أحضانه لتنعم بها إلى المنتهى معه في السماء، قادك إيمانك الطفولي إلى ربح أعظم نصيب وبأعظم وسيلة فقد حملك الفادي بين ذراعيه وانطلق بك إلى ملكوته، فلم يكن ذاك المصلوب مجرد تمثال حجري.. وإنما شخص المسيح نفسه على حسب إيمان قلبك الطاهر، لقد تحررت أيها الصغير بإيمان قلبك البسيط وهذا دائمًا ما يطلبه منّا السيد الرب أن لم نرجع بقلوبنا لنصير كأطفال فلن نعاين الملكوت، وها أنت أيها القديس الطفل قد فعلتها.
فطوباك ثم طوباك ثم طوباك..
صلي لأجلنا أيها القديس الصغير. |