بقلم: محمود الزهيري
وكأن منتجات العلم الحديث ووسائل الإتصالات بثورتها العارمة التي ربطت قارات العالم سلكيًا أو لاسلكيًا ببعض ليكون سكان العالم على صلة ببعضهم البعض بالصوت والصورة في آن واحد وكأنهم لا يحدهم مكان ولايفصلهم زمان, إذ تحطمت حواجز الجغرافيا الصناعية والطبيعية, وأصبح الفاصل الزمني الرابط بين قارات العالم يقترب من الصفر, وهذه هي عظمة الشبكة العنكبوتية الرائعة في إعجازها العلمي والمتعارف عليها بشبكة الإنترنت.
وهذا هو الإعجاز العلمي الفاعل في عالمنا المعاصر, والذي استخدمته دول العالم الحر ومجتمعات هذا العالم ليكون لها دور وظيفي في تبادل المعلومات وإنجاز معظم الأعمال الصناعية والتجارية, وعلى الرأس منها المعلوماتية, فكان أن أصبح العالم في معظم جغرافيته وسكانه على صلة ببعضهم دون فاصل أو حاجز ودونما اعتبار للزمن الذي أصبح يكاد يقترب من الصفر.
تم استخدام شبكة الإنترنت في عقد المؤتمرات بين عدة دول وإن شئت الصحة في القول بين عدة قارات في آن واحد دون بتكلفة مادية تكاد تقترب من الصفر.
إلا أن المتعصبين والإرهابيين الدينيين استخدموا هذا المنتج العلمي استخدام يسيئ لإنسانية الإنسان ويزدري ويسفه ويحتقر الأديان, من خلال بعض من أصحاب الهوس الديني من أصحاب الوصاية على الإنسان والأديان بل ويمكن أن يصدق القول إن قلنا عنهم أصحاب الوصاية على الله ذاته.
ما كنت أتمني أن تكون هذه الأداة العلمية الحضارية بأبعادها الإنسانية والثقافية أداة لترويج أفكار تحمل معاني إزدراء وتحقير الأديان وسب ولعن الأنبياء والرسل, بل والأخطر سب المنتمين لهذه الأديان بما يحملوا معهم من إيمان بالله وأنبياؤه ومرسليه.
الخطير في الأمر أن هذه الظاهرة في إزدياد وتواصل ومرجعها حالة الكبت التي تعاني منها الأقليات الدينية بما تلاقيه من تهميش وإزدراء وتحقير ونفي لهذه الأقليات الدينية بواسطة ما تم التعارف على تسميتهم برجال الدين أو علماؤه المعتصمين على الدوام بتفاسير وتأويلات الأقدمين في نظرتهم للدين والآخر حال تقسيم العالم إلي فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر أي دار الكفر ودار الإيمان.
أرى أن غياب منظومة الحقوق والواجبات الوطنية الإنسانية المبنية على أساس ديمقراطي يراعي العدالة في توزيع الحقوق والواجبات بلا تمييز لأي سبب من الأسباب المتعارف عليها وأهمها الدين والمعتقد, وأرى أنه في حالة تغييب هذه المنظومة فإن صنم العبودية والإستذلال لن يكون إلا لصالح منظومة العبودية والإستذلال السياسي.
هناك حكاية حقيقية حدثت لأحد القرويين البسطاء حال توجهه لسوق المدينة وكانت بصحبته زوجته, وكان أن تعدى عليه أحد التجار حينما تفاوض معه في ثمن البقرة التي أراد بيعها, فما كان من التاجر إلا أن وكز هذا الفلاح البسيط عدة وكزات أوجعته, ولضعفه, ولعدم وجود من يناصره ضد هذا التاجر, لاذ هذا الفلاح البسيط بالصمت, وحينما عاد لمنزله دخل إحدى الحجرات بمنزله الريفي وأغلق عليه باب الحجرة من الداخل, وأخذ يصيح ويوجه جملة من الشتائم والسباب بصوت مرتفع وهو منعزلاً داخل حجرته, فسمعته زوجته, وأطرقت عليه باب الحجرة, وقالت له بصوت يملؤه الإستغراب.. ماذا تفعل؟
فقال: اتركيني ليس لكِ شأن بي, لن أتركه حتي أضربه وأوجعه كما أوجعني!!
فضربت زوجته كفًا بكف طالبة اللطف من الله, إلا أن زوجها ما زال على حاله ولم يتغير وأفاق من غيبوبته, وبكى!!
إلا أن حالة المشابهة بالتاجر والفلاح البسيط ما زالت تتكرر يوميًا في أماكن عديدة, ولم تنقطع, فلا التاجر ترك السوق, ولا الفلاح يقدر على عدم الذهاب إليه, وبالرغم من ذلك تستمر منظومة الظلم وإزدراء الإنسان واستغلال ضعفه وسذاجته, أو في غالب الأحيان العمل على إضعافه وتخويفه واستغلاله لصالح تجار الأوطان وناهبي ثرواتها.
الفضاء الإلكتروني حجرات مغلقة يقول فيها الإنسان مايحلو له أن يقول, من سب وشتم وازدراء وتحقير للأديان وللآخرين في الدين, إلا أن الغالب في الأمر هو غياب العقل الواعي بمتطلبات الإنسان ذات الشأن بحريته وحريات مجتمعه, وكذا بمطالب روحه, ومتطلباته المعيشية والحياتية, وتوجيه سهام النقد إلى من يقف حجر عثرة ضد الحريات الفردية والإجتماعية, والمتطلبات الروحية والحياتية المعيشية التي لا غنى عنها لحياة الإنسان.
العقل أنتج منتجات عظيمة في واقع الإنسان وحياته, وأهم منتج من المنتجات العقلية هو منتج التسامح, والمفاهيم الدينية أنتجت العنصرية والضغائن والكراهيات ليكون غالبية المنتمين لدين من الأديان يمثلوا آخر عدو لهم, لتستمر مسلسلات الكراهية والضغينة والبغضاء لتصل لحد الرفض والشطب من سجل الأحياء, والتدوين في سجلات الوفيات باللعنة والإزدراء والتحقير حتي لمن تم إقصاءؤهم قتلاً وأصبحوا في عداد الأموات وهذا في الغالب يتم بإسم الله ودين الله.
ويلاحَظ أن القاتل المجرم والإرهابي الحقير حينما يرتكب هذا الجرم في يقينه أنه يعجل بدخول الآخر في الدين نار الله المستعرة لتعذيبه الخالد اللامتناهي في الزمن, وأنه حينما يفعل ذلك الجرم سيثاب في الدنيا إستعدادًا لثواب الآخرة وهو الخلود اللامتناهي في جنات الله الخالدة والمخلد فيها.
ما يحدث في غرف الشات والماسينجرات في غالبه يذهب بعيدًا عن ميدان العقل حيث الديماجوجية التي توظف العقل ليستخدم كأداة سياسية أو دينية بحثًا عن إستمراء للظلم والطغيان والفساد السياسي, أو إستمراء البحث بعيدًا عن ساحة النضال من أجل الحريات الفردية والإجتماعية وتأصيل منظومة الحقوق والواجبات, وهروبًا من البحث عن جنة الدنيا, إلي الخلود الزائف حسب تكفير الآخر للآخر من هذا الباب.
ما يحدث في تلك الغرف هو تأصيل للغيب المقدس للآخر في مواجهة الآخر, وكأنه إزدراء للمعرفة والعقل من غير بحث عن أمر المجهول المعرفي تاركين أمر المخيال الديني مفسوحًا كل الطرق أمامه في مواجهة الإنسان لأخيه الإنسان بدعاوي عنصرية بغيضة لا تليق بإنسان القرن الواحد والعشرين.
والسؤال الملحّ الآن يفرض ذاته على غالبية المأزومين من الأكثرية العددية والأقلية العددية الدينية للبحث عن تفسير لهذه الأزمات الضاغطة على المجتمع وهو متعلق بالعقد الإجتماعي المفقود بالتغييب قسرًا وقهرًا من جانب أنظمة الطغيان والإستبداد, ومن جانب الأذرع الدينية لتلك الأنظمة التي لا تؤمن إلا بالحاكم الواحد والسلطة الواحدة والرأي الواحد, وكذلك الدين الواحد, لأنهم يؤمنوا بأن الناس على دين المستبدين بهم.
غياب المعنى الإجتماعي للكلمة سبب من أسباب غياب العقد الإجتماعي لأن الكلمة بدورها الإجتماعي غربت وأشرق مكانها المعنى الديني بأبعاده المتناقضة والمقصية للآخر والرافضة له, ومن ثم أصبح التطور الطبيعي للمعنى الإجتماعي للكلمة حسب هذه المنظومة هو سياسيًا محضًا مبنيًا على سياسة الطغيان والإستبداد الموظفة للمعنى الديني للكلمة, وجرائم القتل والتهديد بالقتل للكتاب والمفكرين والفنانين والأدباء والمبدعين والمخالفين لرأي وتصور أصحاب الوصاية السياسية والوصاية الدينية.
فالدور ينعقد الآن للخروج من الأزمات الضاغظة, هو إعادة العقد الإجتماعي في صيغته التي تتناسب مع الشرعية الدولية ولا تحيد عنها, وأول خطوات السير تجاه ولادة هذا العقد الإجتماعي هو تبديل المعني الديني والسياسي للكلمة ليحل محله المعنى الإجتماعي لتنهض المجتمعات بعقدها الإجتماعي الجديد حسبما أرادت وشاءت مع الحفاظ على الهويات بإعتبارها كائنات فردية مستقلة عن الدولة والمؤسسات الدينية الوظيفية, وفي هذه الحالة من الممكن أن تتحول غرف الشات والتجمعات الإفتراضية الخيالية في فضاء الإنترنت إلى تجمعات حقيقية لها صدى في واقع المجتمعات المأزومة, ولها دور في صناعة العقد الإجتماعي المبني على تقديس الحرية الفردية والحريات الإجتماعية وصولاً لمنظومة الحقوق والواجبات بأبعادها الديمقراطية.
أما المعني الديني للكلمة والموظف لإزدراء الأديان وتحقيرها لن يصب في نهاية المصاف إلا في نهر الشر الذي ترتوي منه أنظمة الطغيان والإستبداد.
محمود الزهيري
mahmoudelzohery@yahoo.com |