مظاهر غنى كثيرة تشهدها مدينتا نيالا والفاشر.. والأغنياء هم مستغلو تجارة السلاح والأغذية
باتت دارفور المضطربة منذ سبعة أعوام مرتعا فسيحا لأغنياء جدد. هم أناس يندرجون، بجدارة، في قائمة من يطلقون عليهم «أغنياء الحروب». هم رجال ونساء كانوا قبل اندلاع الحرب في دارفور، التي أسفرت عن مقتل نحو 200 ألف شخص وتشريد أكثر من مليوني مواطن، حسب تقارير دولية ترددها وسائل الإعلام الدولية، أو 10 آلاف قتيل، وتشريد نحو 900 ألف شخص، بحسب تصريحات المسؤولين السودانيين، إما فقراء يكسبون أرزاقهم يوما بيوم، أو أنهم كانوا يتمتعون بوضع مادي «مستور»، لا يتعدى احتياجاتهم الضرورية. لكنهم الآن أبطال حديث مجالس الأسواق ورجال المال والأعمال والناس في أحياء المدن وفي الأرياف، وفي ولايات الإقليم الثلاث. وصفهم أحد المسؤولين في حكومة جنوب دارفور تحدث لـ«الشرق الأوسط»، بأنهم صاروا «أرقاما بين ليلة وضحاها، تبدأ أحاديث المجالس وتنتهي بهم». ويعلق موسى مختار، وهو محافظ سابق في جنوب دارفور، على الظاهرة بقوله: «هؤلاء من تجار (تشاشة) في سوق نيالا أو قراهم الأصيلة خارج عاصمة الولاية». والـ«تشاشة» مصطلح محلي يعنى به تاجر التجزئة من ذوي الدخول القليلة. ويضيف مختار: «كل الممتلكات الجميلة في المدينة صارت ملكا لهم.. السيارات الجميلة والبنايات الجميلة والأعمال التجارية ذائعة الصيت». يقول إنه عندما «ترى شيئا لافتا للانتباه في المدينة، مبنى أو متجرا أو سيارة فارهة آخر موديل.. وتسأل عن صاحبها تكتشف أنه شخصية مغمورة إلى حد بعيد في الأصل».
ويعتقد سليمان مصطفى من مدينة الفاشر، كبرى مدن إقليم دارفور، وهو معلم ثانوي، أن هؤلاء الأغنياء الجدد الذين ظهروا بعد حرب دارفور استحوذوا «حتى على النساء الجميلات». ويقول عبد الله الأمين، التاجر في سوق شعبي زاخر في مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، لـ«الشرق الأوسط»، إن الحرب في دارفور «قلبت خريطة النشاط التجاري وإدارة المال والأعمال رأسا على عقب». ويضيف: «أغلب التجار وأصحاب المال الذين كانوا معروفين في نيالا، هم الآن إما هجروا المدينة أو أن تجارتهم وأنشطتهم قد تراجعت وحتى إن بعضهم أقفلها». وضرب مثلا بأحد التجار اللامعين في نيالا، وقال إنه غارق بعجزه عن الإيفاء بالتزاماته المالية للمصارف، ولتجار آخرين في المدينة ذاتها أو في العاصمة الخرطوم.
من مظاهر الغنى في مدينتي نيالا والفاشر، ظهور منازل فاخرة لم تكن موجودة في المدينتين قبل اندلاع الحرب. كانت المسافة بين مدينة الفاشر حتى مطارها، نحو 4 كيلومترات، عبارة عن أراضي خالية تتوزع فيها شجيرات صحراوية وأعشاب ومبان مصنوعة من القش بنيت كيفما كان. وكانت مرتعا للجمال والأغنام والحمير.. غير أن الصورة تختلف الآن كليا. على جنبات الطريق بين المدينة والمطار، ارتفعت غابات من الأسمنت: مبان من طابقين أو ثلاثة وأربعة على الأكثر شيدت بعناية فائقة، أشرف عليها مقاولون من خارج الولاية، حسب أحد المقاولين المحليين. وزودت المباني بخزانات مياه ضخمة، تبدو واضحة على الأسطح، تنافسها هناك أطباق التقاط البث الفضائي.
وحول المباني المترامية على جانبي الطريق من المطار إلى داخل المدينة، وهي أعتق مدن دارفور ومعقل سلطناتها وممالكها القديمة، حولها نصبت أسيجة حديدية قوية، وحولها كاراجات تقف خارجها أو داخلها سيارات فارهة. وفي ميدنة نيالا، يتكرر المشهد نفسه. فمن مطارها الدولي حتى قلب المدينة الذي يبعد نحو 20 كيلومترا، كانت المسافة معظمها مغطاة بغابات مملوءة بالأشجار البرية. غير أن شكل المكان تبدل الآن، كما يقول أحد سائقي الحافلات التي تعمل كمركبة عامة من مطار نيالا إلى المدينة. ويضيف: «كل شهر ترتفع على جانبي الطرق مبان جديدة لم تكن المدينة على عهد بها من قبل».
ويقول آدم إبراهيم مفضل، وزير التخطيط العمراني في ولاية جنوب دارفور، لـ«الشرق الأوسط»، إن حركة العمران في مدينة نيالا سريعة بصورة لافتة، ويضيف: «يفرحني أن تبدو المدينة بعمران زاهٍ وجميل، ولكن هذا لا ينفي أن هناك نشاطا ربما غير مرئي يساعد في دفع هذه الحركة». ويقر مفضل بأن الأوضاع الاستثنائية في ولايته بعد اندلاع الحرب، خلقت أنشطة جديدة، يمكن أن تندرج بعضها في قائمة «تجارة الحروب»، ولكنه يرى أن مدينة نيالا هي في الأصل مدينة تجارية، وتتميز عن مدن دارفور الأخرى بهذه الميزة.
وتشير التقارير الرسمية في كل من الفاشر ونيالا، إلى أن عدد السيارات بأشكالها المختلفة تضاعفت في السنوات الأخيرة. وبحسب التقارير، فهناك نحو 500 سيارة تاكسي من الموديلات الجديدة في مدينة نيالا بعضها يعمل بترخيص والآخر خارج نطاق الترخيص، وفي المدينة أكثر من 4 آلاف «ركشة»، وهي نصف سيارة ونصف دراجة نارية تعمل على ثلاث عجلات. ويرى اقتصاديون في دارفور أن الزيادة في أعداد السيارات تعود لسببين: الأول نشاط عمليات البيع بالأقساط المريحة من شركات في الخرطوم وفي نيالا، إلى جانب انتعاش استخدامات السيارات في دارفور بعد دخول كم كبير من المنظمات العاملة في المجالات الإنسانية بعد اندلاع الحرب. وثانيا أن لا أحد يتجرأ بالإشارة إلى تجار الحرب هؤلاء، وهم على ما يبدو يحرصون على عدم البوح بأنشطتهم. ولكن بحسب السلطات المحلية، فإنهم من كل فئات المجتمع، وبينهم شعبيون وموظفون وتجار في الأسواق ورجال إدارة أهلية ومنسوبون إلى الحركات المسلحة في دارفور، التي وقع بعضها على اتفاق سلام مع الحكومة والبعض الآخر لم يوقع.
ويرصد المسؤولون في كل من شمالي دارفور وجنوبيه، أن الأسواق في المدينتين، شهدت كثيرا من التطور والتوسع من حيث المباني والبضائع والتنوع في الأنشطة. ويشيرون إلى أن حركة البيع والشراء في انتعاش شديد، خاصة في أسواق السيارات والعقارات. كما يرصدون ظهور مطاعم جديدة فاخرة تقدم الوجبات السريعة مثل سندوتشات البرغر. ويقول موسى مختار إن «هذا نشاط جديد لم نعهده من قبل في نيالا».
ويقول صحافي محلي يعمل مراسلا لإحدى الصحف في الخرطوم، إن هذه المطاعم يرتادها أناس تبدو عليهم علامات الغنى يطلبون ما تشتهي الأنفس وتأتي فواتيرهم بمبالغ كبيرة. وقال الصحافي إنه لاحظ أن أحدهم سدد ما يعادل مائة وخمسين دولارا ثمن فاتورة لوجبة غذاء له ولاثنين من مرافقيه. ويقول أحد المسؤولين في حكومة جنوبي دارفور لـ«الشرق الأوسط»، طلب عدم ذكر اسمه، إن «من يمتلكون السيارات الجديدة شباب لا ندري من أين جاؤوا بكل هذا المال». ومما يرصد من مظاهر الغنى في السنوات الأخيرة وسط مجموعات من الناس في مدن دارفور، أن عشرات التجار الجدد باتوا يتعاملون تجاريا مباشرة مع دبي في الإمارات العربية المتحدة، كواحد من أكبر المراكز التجارية في العالم، وكذلك الصين والهند، حيث تصل أسبوعيا نحو أكثر من أربع طائرات شحن من هذه الدول تجلب البضائع الخاصة بالتجار الجدد. ويقول مسؤول في جنوبي دارفور إن «شبابا تعاملوا مع المنظمات الإنسانية فأغنتهم، وهناك بعض منهم تعلم التجارة الشبكية». وحتى عام 2000 كان في مدينة نيالا فندق واحد فقط، أنشئ في ستينات القرن الماضي. أما الآن فيوجد في المدينة أكثر من 10 فنادق بدرجات مختلفة، ويرصد قيام أربع بنايات في المدينة يرشحها أصحابها لأن تكون فنادق جديدة في المدينة. تحكي مجالس المدينة عن الظاهرة بروايات تتجدد من يوم لآخر. يروي السكان في مدينة الفاشر أن أحد الأشخاص الذين يمتهنون التجارة في منطقة كبيرة تبعد نحو 200 كيلومتر غربي مدينة الفاشر، دخل المدينة هاربا ضمن أكثر من 500 نازح تدفقوا من مواقع تعرضت لهجمات عديدة عام 2003. ويقولون إنه وصل وفي حوزته أكثر من 7 ملايين جنيه سوداني، نقدا (يساوي الدولار الأميركي 2.8 جنيه سوداني). وأخبرهم أنه حين وقع الهجوم استطاع أن يحمل النقود معه، فيما تعرضت بقية بضائعه للحرق. اشترى بهذا المبلغ سيارة نقل عامة ووظفها لنقل الركاب بين مخيم مجاور للنازحين ومدينة الفاشر. وكانت السيارة تعمل بمعدل 11 ساعة يوميا، لأنها كانت الحافلة الوحيدة التي تعمل بين المخيم والمدينة. وسكان المخيم الذي يحتضن أكثر من 50 ألف نازح، يمنعون دخول أي سيارة من المدينة لاعتقادهم أن هذه السيارات قد تجلب لهم «الأعداء» من ميليشيات الجنجويد التي ينسب لها كثير من أعمال الحرق والعنف التي وقعت في الإقليم.
وهكذا تضاعف عائد الحافلة، ما مكنه من جلب حافلة أخرى شغلها على الخط نفسه. وبعد عام جلب ثالثة. وهو الآن يمتلك أسطولا من الحافلات في المدينة، ويقال إنه انتقل من المخيم وأقام داخل المدينة في منزل استأجره من صاحبة بمبلغ كبير. ويعد الآن في قائمة رجال الأعمال في المدينة، ويقول أحد المقربين منه: «كان يزرع مساحة مقدرة من نبات التبغ»، وهو نبات مكيف شهير في السودان يوضع على الفم، في بلدته حول طويلة. ويضيف: «في موسم الحصاد كان يشتري كميات منها بالإضافة لإنتاجه، ويقوم ببيعها في الفاشر وغيرها من المدن، ليعود له بمبلغ يضمن له دورة تجارية سنوية.. ولكنه الآن رأسمالي معروف في الفاشر». ويقول تاجر كبير من هؤلاء التجار الجدد لـ«الشرق الأوسط»، يمتلك دكانا في السوق في جنوبي مدينة نيالا، ام دفسو، إنه يتلقى من خلاله بضعة أجولة من المحاصيل الزراعية مثل الفول والسمسم واللوبياء، وغيرها من المنتجات الزراعية، ويقوم هو بدوره ببيعها ببطء لتجار آخرين كبار معروفين في المدينة منذ وقت بعيد. ويضيف أنه «بعد بدء الحرب ووصول الآلاف من النازحين وانتشار المخيمات حول نيالا، نشطت تجارتي وزاد الطلب على الحبوب». ويقول إنه «كثيرا ما لا نستطيع أن نلبي الطلبات خاصة في الأعوام الثلاثة بعد الحرب». ويضيف: «أنا استطعت أن أشتري لي منزلا والآن أمتلك هذه السيارة»، وهو يشير بأصبعه إلى سيارة كانت تقف أمام محله التجاري من طراز تويوتا موديل 2008. والآن أبني منزلا جديدا، وعندما يكتمل سأعرضه للإيجار للمنظمات في المدينة». ويحكي عن تاجر ملابس في «بوتيك منزو» في سوق في نيالا، وتاجر معدات إلكترونية في محل كبير أصبح مشهورا في نيالا، وعن سمسار بيع وشراء المنازل كان يمارس عمله هذا راجلا، الآن أصبح يمتلك سيارة وبناية من ثلاثة طوابق تشرف على شارع رئيسي استأجرتها إحدى المنظمات بمبلغ 17 ألف دولار في الشهر. ويقول صاحب مزرعة دواجن مجاورة لمدينة نيالا إن مزرعته توسعت بعد الحرب بما يكفي لتصدير كميات من الدجاج إلى خارج المدينة. وتضاعف إنتاجه من المزرعة ثلاث مرات، وصار بوسعه أن يأخذ قرضا من البنك لكي يتوسع في عمله. ويقول: «هذه فرصة كنت محروما منها لأنني حين أتذكر مبيعاتي لأغطي جدولة السداد أصرف النظر عن الفكرة، ولكن الآن مبيعاتي من منتجات المزرعة كثيرة». وتتوالى قصص الغنى المفاجئ في دارفور. وتتفق الروايات الرسمية والشعبية هنا حول مداخل الغنى المفاجئ، وسبل تحقيقه في الإقليم. فقد أدت الحرب إلى حركة نزوح واسعة من القرى إلى المدن، حيث يوجد في دارفور الآن نحو 40 مخيما للنازحين حول مدن الولاية الكبرى. وعندما دخل المجتمع الدولي على خط الأزمة، توجهت نحو دارفور أكثر من 150 منظمة محلية وأجنبية وعربية، إضافة إلى منظمات أخرى تابعة للأمم المتحدة ووكالاتها. كما دخل نحو 7 آلاف من قوات تابعة للاتحاد الأفريقي لمراقبة وقف إطلاق النار في الإقليم، لتتطور هذه القوات فيما بعد إلى قوات حفظ السلام التي ارتفع عددها، حتى الآن، إلى أكثر من 16 ألف من قوات مقاتلة إلى شرطة موزعة في مختلف أنحاء دارفور.
وهذه المجموعات كلها التي دخلت إلى دارفور بعد الحرب، تمارس أنشطة مختلفة حسب مجالاتها، بملايين الدولارات خلال الأسبوع الواحد، من مصروفات تشغيل، ورواتب لموظفين محليين وآخرين دوليين. ويتراوح مثلا راتب الجندي من الجنود المشاركين في قوات حفظ السلام، بين 1000 إلى 1500 دولار في الشهر، وقد أدى هذا الوجود المكثف للنازحين والمنظمات وقوات حفظ السلام إلى انتعاش المهن الأخرى، كما يقول المسؤولون في كل من الفاشر ونيالا. وتعتبر حصص الإغاثة التي تمنح للنازحين واحدا من أهم مصادر الغنى المفاجئ في دارفور، حيث تقدم المنظمات حصصا شهرية لسكان المخيمات، تشمل مواد غذائية محلية منها الذرة بأصنافها المختلفة، ومواد أخرى. ولكن كميات كبيرة من هذه الحصص تباع في الأسواق من قبل النازحين أنفسهم. ويشرح مسؤول في مفوضية العون الإنساني السودانية في مدينة نيالا، وهي المشرفة على العمل الإنساني في الولاية، لـ«الشرق الأوسط» كيفية حدوث ذلك. ويقول إن بعض الأشخاص داخل معسكرات النازحين، يحملون بطاقات إضافية لأشخاص وهميين جرى تسجيلهم مع بداية النزوح باعتبارهم نازحين أيضا. ويحمل بعض شيوخ المعسكرات لوحده أكثر من 30 بطاقة باللون الأبيض، كما هو محدد من قبل المنظمات لصرف الإغاثة الشهرية، يقوم بصرفها شهريا لمنفعته الخاصة. ولأن هذه الكميات تفوق حاجته من الغذاء له ولأسرته بأضعاف، فإنه يتفق مع أحد التجار في أقرب سوق في المدينة ويبيعه كميات من الإغاثة بأسعار تقل عن النصف من أسعارها التي تشتريها بها المنظمات من الأسواق المحلية. ويكشف المسؤول في الشؤون الإنسانية الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن بعض النازحين يضطرون إلى بيع جزء من حصصهم الشهرية من أجل احتياجات أخرى ليست موضوعة ضمن الحصة المقررة من المنظمات، كما أن الطلب على المواد الغذائية المحلية المحددة في الحصة قد تضاعف، وهي في الغالب موجودة لدى التجار بعد أن يقوموا بشرائها من المزارعين بأسعار زهيدة، وتباع إلى المنظمات بأسعار عالية. ويكشف أحد العاملين في الإغاثة في دارفور أن بعض الموظفين في المنظمات يتفقون مع التجار المحليين بأن تلتزم منظماتهم التي يعملون فيها بشراء حصصها من المواد الغذائية المحلية التي تطلبها لمستفيدين في المخيمات من التاجر المعين مقابل حصول هؤلاء الموظفين على «عمولة» منتظمة من التاجر المعين، مقابل قيامهم بإقناع منظماتهم بالشراء منه. وهناك زعماء قبائل يحصلون على الإغاثة بموجب قوائم حقيقية لرعاياهم المتضررين من الحرب، وعندما يحصلون على الإغاثة المطلوبة من المنظمات، لا يقدمونها للمستفيدين، بل تباع في الأسواق بالطريقة ذاتها. ويقول مفوض الشؤون الإنسانية في جنوبي دارفور «سبيل علي سبيل» إنهم بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي يعرفون أن كميات من الأغذية تتسرب من أيدي المستفيدين إلى أيدي التجار في المدن. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «الكميات القليلة نتركها تمر لأنها تعتبر في نظرنا عادية، ولكن إذا كانت هناك شحنة تخرج من المخيم إلى الخارج فهذا يتطلب المساءلة». ويضيف: «ضبطنا شحنات متوجهة من المخيم إلى مدينة نيالا، وعندما سألنا من يرافق الشحنة قيل لنا إنها تتبع لفلان، وفلان هذا تاجر معروف في المدينة». ويؤكد أن الأرقام في المخيمات غير حقيقية، وهذا ما يفتح الباب للتسرب إلى مثل هذه التجارة. وحسب تجار المدينة فإن هذه الأنشطة خلقت، ومنذ العام الأول لبروز الأزمة الإنسانية في دارفور، طبقة جديدة من الأغنياء ما كانوا معروفين بالنسبة للسكان.
ويقول وزير التخطيط العمراني في جنوبي دارفور: «لقد تغير نمط حياة كثيرين بسبب تلك الأنشطة»، ويتفق معه في الحديث الناشط السياسي «مختار». ومع حاجة المنظمات إلى توفير مقرات لها لممارسة نشاطها، ولإقامة موظفيها في المدن خاصة، تضاعفت إيجارات المنازل في المدن «بصورة غير معهودة من قبل»، على حد رأي أحد وسطاء بيع وإيجار العقارات. ودفع هذا إلى قيام تجار في المدن بتشييد منازل بمواصفات تتطابق مع حوجة المنظمات وعرضها لها، بأسعار عالية، عبر وسطاء أو موظفين داخل هذه المنظمات، مقابل «عمولات».
وعليه يتداول السكان في نيالا الحديث عن بناية في المدينة استأجرتها منظمة تعمل في جنوبي دارفور بمبلغ يعادل 25 ألف دولار أميركي. وهناك عشرات المنازل تستأجر بمبالغ تتراوح بين 2 إلى 20 ألف دولار في الشهر. وقال أحد التجار تستأجر إحدى المنظمات منزله في الحي الفاخر في نيالا، إن التعاقد تم بمبلغ 8 آلاف دولار شهريا، يدفع منها نحو 500 دولار عمولة.
وهناك أغنياء ولجوا هذا الباب من جهة تجارة السلاح. وتقول مصادر مطلعة في نيالا تحدثت لـ«الشرق الأوسط»، إن هذه التجارة نشطت في البدء بتهريب السلاح المتسرب من المدن أو من دول الجوار خاصة تشاد وأفريقيا الوسطى وغيرها من دول غرب أفريقيا، إلى الحركات المسلحة في دارفور، عبر تجار محللين في المدن الرئيسية في الإقليم. ولكن عندما خفت حدة المواجهات بين الحركات المسلحة والقوات الحكومية أو الموالية لها، نشطت في الوقت ذاته الحروب القلبية خاصة في جنوب دارفور منذ أكثر من عام، وبذلك تحول نشاط تجارة الأسلحة إلى ساحات الحروب القبلية، حيث تدخل قبيلة، ولكل منها ميليشيا مسلحة، في مواجهة مع قبيلة أخرى مجاورة لها.
وفي خضم المعركة أو بعدها تكتشف إحدى القبيلتين أنها الأضعف تسليحا، فتلجأ، عبر لجان خاصة بها، إلى جمع تبرعات من أبناء القبيلة لجلب السلاح لها، من دول الجوار أو من الأسلحة التي تتسرب من أيدي الحركات المسلحة أو الميليشيات. وتشير المصادر إلى أن الأسلحة المتسربة محليا، تباع دائما بأسعار زهيد للغاية، لتباع للحركات المسلحة أو القبائل بأسعار عالية. وتتضاعف أربع مرات عن سعرها الأول. وطبقا للمصادر، فإن من يمارسون هذا النشاط، «مغامرون» وتجدهم دائما من فئة الشباب في المدن. وهم، حسب تقديره، ممن تبدو عليهم مظاهر الغنى، وهم من يمتلكون الأعمال التجارية الكبيرة، ولكنهم شخصيات مغمورة لا يعرفها إلا العدد القليل من الناس. ويجد تجار الحرب في دارفور ملاذهم الآمن في التعامل مع «الأموال المنهوبة» عبر عمليات النهب المسلح التي تقوم بها مجموعات، تعتقد السلطات المحلية أنها تتبع الحركات المسلحة، ومن تسميهم «المتلفتين» من الميليشيات المسلحة. وترى أن هذه التجارة تتم عبر شبكات محكمة لها أذرع في المدن وأخرى في الخارج، من هم في الخارج ينهبون، وتقدم المنهوبات لمن هم في الداخل، وهؤلاء يقومون ببيع المسروقات في الداخل والخارج. فمثلا: نهبت كميات من السكر من شاحنة قادمة من العاصمة متوجهة إلى نيالا، فتباع إلى تجار بعيدا عن الأعين، بسعر 50 جنيها سودانيا للجوال، ليقوم التجار بترحيل هذه البضائع سرا إلى نيالا، ويقومون ببيع الكميات بسعر بين 150 إلى 125 جنيها للجوال ، حسب الطلب على السلعة في أسواق المدينة. ويقول مسؤولون في جنوبي دارفور إن بعض البضائع المنهوبة تهرب إلى تشاد وأفريقيا الوسطى لتباع هناك. وينشط آخرون من تجار الحرب في بيع الوقود إلى الحركات المسلحة، حيث يقومون بجمع كميات من الوقود، بطريقة غير لافتة للانتباه وتخزينها، قبل تهريبها إلى الأحراش وبيعها للحركات المسلحة بأسعار «خرافة»، حسب تعبير أحد سائقي الشاحنات الذي تحدث لـ«الشرق الأوسط» حول الموضوع. ويحمل وزير التخطيط العمراني في جنوبي دارفور إبراهيم مفضل، الحركات المسلحة في دارفور مسؤولية تشجيع مثل هذه الأنشطة التي قال إنها مضرة بالعمل التجاري السوي. ويعتقد خبراء أمنيون في دارفور أن هذه التجارة «هي التي تضع كثير من الزيت على نار الأزمة في دارفور.. وذلك حتى تستمر الأزمة لتستمر تجارتهم». |