بقلم: سوزان قسطندى
حقاً نحن نفتخر بكنيستنا القبطية العريقة والشامخة والرائدة، وبآباء الكنيسة والرهبنة القديسون العظام، وبشعبها المؤمن المحب للمسيح، وبتاريخها المشرِّف والذى يروى كيف استطاعت بنعمة المسيح أن تقف فى وجه قوى الظلام المحيطة بها وتساهم بدور فعّال فى إنارة المسكونة بضياء المسيحية وإزدهار الحضارة الإنسانية عالمياً.. إلا أن الكمال لله وحده، فلا يتجاهل التاريخ أيضاً خطايا البشر- ولو كانوا قديسين- بل يذكرها بغرض تعليمنا لكى ننتبه فلا نضل ونعتبِر فلا نكرر الأخطاء بل بالحرى نتمسك بالفضائل والأخلاق الحسنة.
بالرغم من أن المحاكمات الكنسية هى حق للكهنوت المسيحى حسبما سلّم المسيح له المجد سلطان الحل والربط لكهنوت كنيسته- من أجل حفظ التعليم السليم والتيسير على المؤمنين وتقويم المخالفين- وحقاً كم أجادت الكنيسة إستخدام هذا السلطان الروحى فى حفظ الإيمان المسيحى والعقيدة المستقيمة وتقويم المخالفين، إلا أن إساءة إستخدام هذا السلطان أحياناً والخروج عن قانونية المحاكمات حسبما نظّمت تعاليم الآباء الرسل يساهم فى إنقسام الكنيسة وتشتت الرعية "أضرب الراعى فتتبدد خراف الرعية" (مت 26: 31).
وللتدليل والمقارنة والدراسة النقدية والتحليلية، أعرض هذا الحدث من تاريخ الكنيسة القبطية كما يذكره السنكسار القبطى فى تذكار اليوم العشرين من شهر برمهات المبارك:
((( فى مثل هذا اليوم من سنة 623ش (16 مارس 907م) تنيح الأب القديس الأنبا خائيل (ميخايل الأول) السادس والخمسون من باباوات الكرازة المرقسية. رُسم بطريركاً فى 30 برمودة سنة 596ش (25 أبريل سنة 880م)، وكان ذا خصال حميدة، غير أن أحزاناً شديدة حلّت به: منها أن البابا قسما (قسما الثانى البطريرك الرابع والخمسين) كان قد بنى كنيسة على إسم الشهيد أبطُلماوس ببلدة دنوشر التابعة لأسقف سخا. وحدث أن أهالى دنوشر أرادوا أن يدعوا الأب البطريرك وبعض الأساقفة المجاورين لتكريس هذه الكنيسة، فلم يطب لديه (أسقف سخا) هذا الأمر. ولما عملوا على غير رغبته وجاء الأب البطريرك ومعه الأساقفة، لم يقبل هذا الأسقف البقاء وخرج من الكنيسة مدّعياً أنه ذهب ليهتم بأمر طعامهم. فلما طال غيابه كثيراً وحان وقت القداس، صلى الأب البطريرك صلاة الشكر ورفع القربان بعد إلحاح من الأساقفة وبما له من حقوق الرئاسة. وعلم الأسقف بذلك، فدفعه شرّه وحبه لمجد العالم إلى الغضب بدعوى أن البطريرك تعدّى القوانين ورفع قرباناً فى أبروشية بدون إذن صاحبها، وعاد إلى الكنيسة مسرعاً إذ دخله الشيطان ودفعه إلى الشر وتعدّى على المذبح المقدس الطاهر. أما البابا البطريرك فأكمل صلاة القداس بكل هدوء وكمال.
وفى اليوم التالى عقد البطريرك مجمعاً من الأساقفة الذين معه والكهنة والعلماء، وحرم ذلك السقف، وأقام غيره.
فازداد غضباً (الأسقف المعزول) وأضمر سوءاً إذ حلّ الشيطان فى قلبه، فقام ومضى إلى والى مصر أحمد ابن طولون وقال له: "إن البطريرك كثير الثروة واسع الغنى".
وكان هذا الوالى آخذاً فى الإستعداد للذهاب إلى الحرب ومحتاجاً إلى النفقات، فاستدعى الأب البطريرك وطلب منه أموال الكنائس وأوانيها، فأبى أن يعطيها له، فطرحه فى السجن مع شماس إسمه إبن المنذر مدة سنة كاملة، كان خلالها لا يقتات بغير الخبز والبقول المسلوقة والملح.
فاتفق يوحنا وموسى من كتّاب الوالى مع كاتبى وزيره يوحنا ومقار إبنه على إنقاذ الأب البطريرك، واستغاثوا بالوزير فلبّى دعوتهم وشفع لدى الوالى على شرط دفع مبلغ 20 ألف دينار لإبن طولون. فكتب البطريرك تعهّداً على نفسه بدفع المبلغ على قسطين: الأول بعد شهر والثانى بعد أربعة أشهر، وبهذا أمكنه الخروج من السجن. فلما جاء ميعاد القسط الأول دفع أولئك الكتّاب ألفى دينار، وتبرّع الوزير بألف، ودفع هذا الأب سبعة آلاف جمعها من الأساقفة والمؤمنين.
وأراد أن يتدبّر العشرة الآلاف الأخرى قيمة القسط الباقى، فقصد بلدة بلبيس. وبينما هو يفكِّر فى الأمر إذ براهب رثّ الثياب مرّ بتلاميذه وقال لهم: "إمضوا وقولوا لمعلِّمكم أن الرب سيمزِّق عنك صك الغرامة بعد أربعين يوماً". فلما علم الأب بذلك طلب الراهب فلم يجده. وقد تم ذلك، إذ لم تمضِ تلك المدة حتى توفى إبن طولون، وتولّى مكانه إبنه خماروية سنة 875م، فرأى هذا أن يُخلَى طرف البطريرك، فاستدعاه وطيّب خاطره ثم مزّق الصك.
أما الرجل الشرير الذى سبب هذه المتاعب لقداسة البابا فقد نزل به غضب الله فى الحياة والممات، ليكون عبرة لمن يعتبِر.
وقد قضى هذا الأب على الكرسى المرقسى سبعاً وعشرين سنة وشهراً واحداً وتسعة أيام ثم تنيح بسلام. صلاته تكون معنا آمين. )))
والسؤال الآن: من الذى أخطأ ؟!!
هل أخطأ أهالى بلدة دنوشر بتجاهلهم لرغبة أسقفهم ؟! وعدم إحترامهم له ؟!
هل أخطأ أسقف سخا بتجاهله لرغبة رعيته ؟! وعدم محبته لهم ولزملائه الأساقفه وأبيه البطريرك ؟!
هل أخطأ الأب البطريرك والأساقفة المجاورين بتجاهلهم لأسقف سخا ؟! وتعدّيهم عليه بحضورهم لتكريس كنيسة فى أبروشيته دون دعوة منه ؟!
هل أخطأ أسقف سخا بعدم الخضوع للأب البطريرك وعدم إحترام الأساقفة الضيوف، بعد أن صار تشريفهم أمراً واقعاً وإكرامهم أمراً واجباً ؟! وعدم الحكمة فى إحتواء الموقف ؟! والعناد المتمثِّل فى ترك الكنيسة لمدة طويلة ؟!
هل أخطأ الأب البطريرك والأساقفة الزملاء بعدم الحكمة المثيل فى إحتواء الموقف ؟! وعدم تأجيل صلاة تدشين الكنيسة لحين حضور الأسقف أو لحين حل الأزمة وإنهاء الخلافات الشخصية ؟!
هل أخطأ أهالى البلدة بعدم الحكمة المثيل فى إحتواء الموقف ؟! وعدم البحث عن راعيهم وإحضاره بكرامه لائقة للإشتراك فى الصلاة ، أو الطلب من الأب البطريرك تأجيل الصلاة لحين حضوره ؟!
هل أخطا أسقف سخا ووقع فى الأنانية والذاتية والكبرياء أصل كل الشرور بأن تعدّى على المذبح المقدس ؟!
هل أخطا الأب البطريرك والآباء الأساقفة والكهنة والعلماء بأن وقعوا فى ذات الكبرياء والإنتقام للذات؟! بأن عقدوا مجمعاً سريعاً فى اليوم التالى، ومدة إنعقاده يوماً واحداً، وحكموا فيه على أسقف سخا غيابياً بأقصى عقوبة وهى حرمانه من شركة الكنيسة وتجريده من رتبته الكهنوتية، حكماً نهائياً ودون رجعة إذ أقاموا أسقفاً غيره- منكرين عليه فرصة التوبة، ومضيعين على أنفسهم فرصة تقويمه ؟!
هل أخطأ الأسقف المشلوح بأن وقع فى ذات الإنتقام العنيف للذات بأن وشى بالأب البطريرك لدى الوالى المستعمر المتربِّص بالكنيسة القبطية وشعبها ولا يهمه إلا مصالح كرسيه ؟!
أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات.. لأنه من الواضح أن هذه التجربة التى حلّت بالكنيسة القبطية فى ذلك العصر لم تكن بسبب إضطهاد إسلامى للأقباط من الأساس !! ولم تكن بسبب بدعة أو هرطقة حول العقيدة المسيحية الأرثوذكسية !!
وإنما كانت التجربة ذاتية داخلية سبق أن أنذرنا المسيح لخطورتها "بيت منقسم على ذاته لا يثبت" (مت 12: 25).. "الزارع إثماً يحصد بلية" (أم 22: 8)..
وكما يقول يعقوب الرسول "من أين الحروبات والخصومات بينكم؟ أليست من هنا من لذّاتكم المحارِبة فى أعضائكم؟! تشتهون ولستم تمتلكون، تقتلون وتحسدون ولستم تقدرون أن تنالوا، تخاصمون وتحاربون ولستم تمتلكون لأنكم لا تطلبون، تطلبون ولستم تأخذون لأنكم تطلبون رديّاً لكى تنفقوا فى لذّاتكم.. إتّضعوا قدام الرب فيرفعكم، لا يذم بعضكم بعضاً أيها الإخوة، الذى يذم أخاه ويدين أخاه يذم الناموس ويدين الناموس، وإن كنت تدين الناموس فلست عاملاً بالناموس بل ديّاناً له، واحد هو واضع الناموس القادر أن يخلِّص ويهلِك، فمن أنت يا من تدين غيرك" (يع 4: 1- 12)..
وأيضاً كما يقول بولس الرسول "لا تضلوا، الله لا يُشمَخ عليه، فإن الذى يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً، لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية ، فلا نفشل فى عمل الخير لأننا سنحصد فى قته إن كنا لا نكِّل ، فإذاً حسبما لنا فرصة فلنفعل الخير للجميع ولا سيما لأهل الإيمان" (غل 6: 7- 10). |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|