CET 00:00:00 - 06/07/2009

مساحة رأي

بقلم: د.عبد الخالق حسين
لا أفشي سراً إذا قلت أنني أكن كل الاحترام والتقدير للسيد نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي، وذلك لما أظهر من حيادية نادرة في التعامل مع مختلف مكونات الشعب العراقي، وأبدى قدرة جيدة في قيادة العراق وهو يمر في أحلك الظروف وأخطر مراحل التاريخ عربدة. فقد أثبت الرجل إخلاصه للشعب والوطن، وأنه فوق الطائفية والعرقية والحزبية، ورغم حرمانه من تجربة سابقة أو التدرب على قيادة الدولة قبل تسلمه المسؤولية، إلا إنه أثبت أنه سريع التعلم، ويستفيد من أخطاء وتجارب الآخرين.
ولكن يبدو ومع الأسف الشديد أن هناك البعض ممن يريد الشر للمالكي قد نجح في اختراق فريقه، فراح يقدم له السم في العسل. ومن هذه السموم، حمل صوره في المسيرات العسكرية، والمبالغة بأهمية يوم انسحاب القوات الأمريكية من المدن العراقية، فتحول هذا اليوم إلى يوم استعادة السيادة الوطنية، وإعلانه عطلة رسمية، والابتهاج بهذه المناسبة.
ولتفادي سوء الفهم من هذه المقالة، أود أن أؤكد أني لا أدعوا إلى عدم الاحتفال بهذه المناسبات، أو حرمان شعبنا الجريح المدمن على الأحزان، أن لا يعلن أفراحه في المناسبات الوطنية، سواء بمناسبة انسحاب القوات الأمريكية من المدن، أو فوز فريق كرة القدم العراقي في السباقات الدولية، أو حتى فوز المغنية العراقية شذى حسون في سباق الأغاني بين الأقطار العربية...الخ. فكل هذه المناسبات ومهما كانت كبيرة أو صغيرة، من المفيد أن يستثمرها أبناء الشعب لخلق فرصة للبهجة التي حرم منها خلال عشرات السنين من حكم البعث وما بعده، حتى صار الحزن صفة ملازمة للإنسان العراقي المصاب بداء الكآبة (Melancholy) على مر العصور، وصار يعبر عن حزنه المزمن بشكل جلد الذات بالسلاسل والتطبير في عاشوراء.جنود عراقيون يحملون صورة لرئيس الوزراء نوري المالكي خلال عرض عسكري في الموصل يوم 1/7/2009 (صحيفة الشرق الأوسط، عن رويترز)

ولكن اعتراضي هو على المبالغة في الاحتفال بيوم انسحاب القوات الأمريكية والدولية من المدن، فتعاملت السلطة مع الحدث وكأن هذه القوات جاءت للعراق لاستعباد شعبه ونهب خيراته، تماماً كما تصوره دعايات أيتام البعث وأنصارهم من الإعلام العربي، وكأن ليست هذه القوات هي التي حررت الشعب من أبشع نظام همجي عرفه التاريخ بعد إلحاح شديد من المعارضة العراقية، وليست أمريكا هي التي سعت لدى الدول الدائنة للتنازل عن ديونها على العراق، التركة الثقيلة التي ورثها شعبنا من حكم البعث المقبور، وليست أمريكا هي التي تسعى الآن لإخراج العراق من البند السابع والذي بدون الخروج منه تبقى سيادة العراق منقوصة، وثرواته بيد الأمم المتحدة، حتى ولو انسحبت القوات الدولية من العراق بالكامل.
إنه لمؤسف حقاً، أن تصرفت السلطة بهذه المناسبة وكأنها قامت هي بطرد هذه القوات بعد معارك دامية شنتها قواتها ضد القوات الأمريكية، انتهت بتحرير المدن العراقية من القوات "الغازية"، بينما الواقع تم هذا الانسحاب بجهود الطرفين، الأمريكي والعراقي، بعد التحسين النسبي للأمن، ووفق الاتفاقية الأمنية الموقعة بين الحكومة العراقية والإدارة الأمريكية في عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش. والجدير بالذكر أن الأمريكان هنئوا العراقيين على هذا المكسب، وأكد الرئيس أوباما في خطابه الأخير في القاهرة، أن ليس لأمريكا أية أطماع في العراق، لا بأراضيه ولا بثرواته، فالعراق للعراقيين وحدهم. وفي رأيي ورأي كل مخلص للعراق، أن هذا الانسحاب على مراحل، ضروري من أجل وضع القوات العراقية أمام مسؤولياتها لإعادة الثقة بنفسها وتنمية قدراتها في الاعتماد على الذات، في حماية العراقيين وممتلكاهم ودحر الإرهابيين، وأن لا يبقوا معتمدين على الأمريكان إلى ما لا نهاية.

كذلك يجب أن نعرف أن القوات الأمريكية غادرت المدن فقط، فهي مازالت موجودة في العراق، ووجود هذه القوات هو في صالح العراق، للقيام بتدريب القوات العراقية، ومد يد العون لها عند الحاجة. فالوضع الأمني ما يزال هشاً، وموجة الانفجارات تجددت في الآونة الأخيرة.
كما وتسلمت القوات العراقية 168 معسكرا وموقعا من القوات الأميركية التي انسحبت من المدن في 30 يونيو (حزيران)، حسبما أكدت وزارة الدفاع العراقية. وهذا لا يحدث بين الأعداء بل بين الأصدقاء.
لذلك نعتقد أنه كان من الأفضل للحكومة أن تكون متواضعة في هذه المناسبة، وعدم إعطاء انطباع وكأنها تنكر الجميل للصديق. فمستقبل العراق وأمنه واستقراره مرهون بقدرات القوات العراقية وتطهيرها من المخربين المندسين في صفوفها، وبنوعية علاقة العراق القادمة مع الدولة العظمى. لذلك كان المفترض بالسيد المالكي تقديم الشكر علناً إلى القوات الأمريكية والدولية التي قدمت التضحيات في سبيل تحرير العراق وتشكيل جيشه الجديد وتربيته على مبادئ احترام الحكومة المدنية الديمقراطية. والجدير بالذكر، أن السيد المالكي مدين شخصياً بحياته للقوات الأمريكية عندما وقع في فخ جيش المهدي بالبصرة في عملية (صولة الفرسان) التي قادها بنفسه قبل عامين، لولا نجدة الأميركيين له لكانت كارثة. بينما الذي حصل ان السيد المالكي، وكما أفادت التقارير، قدم الشكر إلى القائد العسكري الأمريكي في العراق، الجنرال أوديرنو، وثمَّن دور القوات الأمريكية في اللقاءات الخاصة بينهما فقط، وتجنب تقديم الشكر في العلن في خطابه بمناسبة الانسحاب.

وبالعودة إلى الصورة التي أشرنا إليها أعلاه، أعتقد أننا كعراقيين نعرف الثمن الباهظ الذي دفعه شعبنا بسبب تأليهه للحكام عبر تاريخه الحديث. لذلك حذر كثيرون من العراقيين، وأنا منهم، في صحافة المعارضة قبل سقوط البعث، حذرنا الحكام في عراق ما بعد صدام من فكرة التأليه وفرض صورهم على الناس، سواءً في الشوارع أو الدوائر الحكومية أو الأماكن العامة. فبمجرد رفع هكذا صور يعيد إلى الذاكرة صور صدام حسين التي بلغت في الشوارع أكثر من نفوس العراق. وهناك نكتة نشرها صحفي بريطاني في إحدى الصحف البريطانية، أنه عندما زار بغداد في التسعينات، سأل سائق التاكسي كم هو عدد نفوس العراق فقال خمسين مليون. فاستغرب الصحفي وقال هل متأكد من هذا الرقم؟ فأجاب السائق ضاحكاً، نعم، عدد أبناء الشعب 25 مليون وهناك 25 مليون صورة لرئيس الجمهورية، المجموع 50 مليون.

لا نريد تكرار هذه الحالة في العراق الديمقراطي. فرفع صورة أي زعيم سياسي عراقي بهذه الطريقة الفجة تثير في الإنسان العراقي ذكريات مؤلمة، وبالأخص صورة صدام حسين، وقد أحسن رسام الكاريكاتير الفنان سلمان عبد في نشر كاريكاتير يشبه الصورة التي حملها الجنود العراقيون للسيد المالكي خلال عرض عسكري في الموصل يوم 1/7/2009، مع عبارة "تي تي ..." والتي تكملتها: "مثل ما رحت إجيتي".
أعتقد أن الذين أشاروا بحمل هذه الصورة في المسيرة لم يقدموا أي خدمة للسيد المالكي، بل أردوا العكس من ذلك عمداً بتشبيهه بصدام حسين، ولإحراجه وإثارة حسد وحقد منافسيه وإعطاء ذخيرة حية لمناوئيه، خاصة وهناك منافسون له استأجروا في العام الماضي شركات إعلامية أمريكية مختصة في الترويج والتسويق (PR) للقيام بتجميل وتزويق وجوههم وتقبيح وجوه منافسيهم، فهؤلاء وغيرهم سيستغلون حمل صور السيد المالكي في هذه المناسبات للطعن به والتهكم عليه، ويقولون أنه يحلم ليكون ديكتاتوراً مثل صدام، الأمر الذي لا نرضاه للسيد المالكي. 

خلاصة القول، أعتقد أن من مصلحة السيد المالكي أن لا يشجع هؤلاء بحمل صوره في المسيرات وبهذه الطريقة، وخاصة من قبل الرسميين مثل الجنود. وإن حصل، فيجب أن يكون بشكل عفوي في المسيرات الشعبية ومن قبل أناس غير رسميين. فرفع صوره بهذه الطريقة القصد منه تشبيه بصدام حسين، وهذا ما يتمناه له أعداءه، فحذارى من الوقوع في الفخ.
كاريكاتير بريشة الفنان سلمان عبد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق