مثل كل المصريين شعرت بخيبة أمل بالغة عندما هزم الفريق الأمريكي لكرة القدم فريقنا القومي لكي يخرجه من الأدوار الأولي لكأس القارات. وربما شعرت بخيبة أمل أكثر نتيجة ذلك اللغط الذي ثار بعد المباراة مباشرة حينما وضع الإعلام التليفزيوني في اختبار للمسئولية الصحفية لم يخرج منه ناجحا حيث بدا أن الإثارة كانت أكثر أهمية بكثير من الحقيقة. ولكن المشكلة الأكبر كانت أن الموضوع الأصلي, وهو ما جري في جنوب أفريقيا, والقضية الأعظم, وهو ما يجري في مصر, ضاعت في خضم اللغط والقيل والقال.
وبداية فإن قصة الذهاب والإياب إلي ومن كأس القارات كان لها جانبها العاطفي والنفسي الذي تأرجحت فيه أمة بأسرها ما بين مشاعر شتي كانت في أولها الخوف الشديد من' فضيحة' كروية كبري وهو ما ظهر فور الإعلان عن المجموعة التي سيلعب فيها فريقنا القومي, فكيف سيكون حالنا ونحن نلعب مع قوي عظمي في عالم كرة القدم, وهل توجد بعد البرازيل وإيطاليا قوي عظمي أخري؟ وربما جاء الشوط الأول لمباراة مصر الأولي مع البرازيل مؤكدا هذا الخوف, ومن يستمع إلي التحليلات الفضائية المختلفة بين شوطي المباراة والنتيجة ثلاثة أهداف للبرازيليين وواحد لنا فقد كان الدعاء فيها بالستر غالبا. ولكن هذا الخوف انقلب إلي فورة حماس وطاقة ثقة بالنفس لا تحد ساعة أن أحرز فريقنا هدفي التعادل, ولأول مرة في تاريخ كرة القدم استطاع فريق أفريقي أن يحرز ثلاثة أهداف في مرمي البرازيل, وما زلت أتذكر أن نجم الكرة نبيل نصير لم يعرف في تاريخه الكروي إلا بهدفه اليتيم ذات يوم في أوائل الستينيات في مرمي فريق كان أحد لاعبيه' بيليه'. وبشكل ما تحول المصريون من الخوف إلي الثقة بالنفس,
ومن الثقة بالنفس إلي التساؤل لماذا لا نفوز علي البرازيل, ألسنا نحن' الفراعة' وهؤلاء اللاعبون هم أبناء هذه الأرض الطيبة؟ ورغم انتهاء المباراة بهزيمة الفريق بهدف آخر إلي أن المشاعر الحماسية ارتفعت, وأكدت عليها مباراة إيطاليا-بطلة العالم- التي فزنا عليها باستحقاق, ومن بعيد ظهر حلم واعد, ومنطقي للمحللين, أن تكون المباراة النهائية بين مصر والبرازيل لكي تقوم مصر بتصحيح نتيجة المباراة الأولي التي سرقتها البرازيل بهدف مشكوك فيه, بعد أن أصبحت مباراة الولايات المتحدة نوعا من تحصيل الحاصل ؟!. ولكن هذه المشاعر العالية نزلت كلها من السماوات السابعة إلي هوة اليأس السحيقة بعد مباراة أمريكا, ولم تكن' ريمة' قد عادت إلي عاداتها القديمة فقط, وإنما عادت مشكوكا فيها, وفي أخلاقياتها, وفي حقيقة قدراتها, وعما إذا كان ما شاهدناه من قبل محض خداع بصر, أو أنه في الحقيقة كان نوعا من خفة اليد, واستلاب العقل؟
كانت المشاعر إذن تتعرض لتلك الحالة من التقلب لا تزيد أو تقل كثيرا عن تلك اللعبة التي نعرفها في مدن الملاهي والتي تدفعك عاليا ثم تهبط بك بسرعة مخيفة, وتدور بك في حلقات متتابعة حتي تفقد الأنفاس. ولكن الواقع كان يدعونا للتمسك بالحقائق الموضوعية التي ربما لو عرفناها لكانت ضربات القلب أكثر انتظاما, وضغط الدم يدور في ارتفاعه وانخفاضه في دورات معقولة. والحقيقة الأولي هي أننا أبطال أفريقيا لمرتين متتابعتين, بل أننا حصلنا علي بطولة أفريقيا ثلاث مرات خلال عقد واحد حصل فيها واحد من أنديتنا_ الأهلي-علي البطولة الأفريقية لعدة مرات. ومعني ذلك أننا ذهبنا إلي بطولة القارات ونحن فريق له حول وطول, وليس نكرة في عالم كرة القدم.
والحقيقة الثانية هي أننا عندما انتقلنا من المجال القاري إلي المجال العالمي فإننا إزاء مستوي آخر من المنافسة العالمية, ومن ظن أن الولايات المتحدة سوف تكون' حصالة' الفرق الأعظم فإنه لم يكن جاهلا بالفريق, وغير عارف بالروح الأمريكية فقط, ولكنه لم يكن يعرف أن هنري كيسنجر وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأسبق كان هو الذي قال في منتصف السبعينيات أن العالم لن يعترف بالولايات المتحدة كقوة عظمي إلا عندما تكون الأولي في مجال كرة القدم كما يعرفها العالم وليس كما يعرفها الأمريكيون. لقد مضت أكثر من ثلاثة عقود علي هذا القول, ولم تحقق واشنطن هذه المكانة, ولكن يبدو أن الولايات المتحدة في الطريق إليه, حتي ولو كان طريقها إلي القمر قد استغرق عقدا واحدا فقط!.
والحقيقة الثالثة أن الأمر في الأول والآخر هو لعبة كرة القدم التي تتداخل فيها عناصر نفسية ومهارية وأمور غامضة لم يعرفها العلم بعد مثل التوفيق والحظ والصدف وكلها تعطي اللعبة جمالها وإثارتها.
والحقيقة الرابعة, وربما كانت الأقل ظهورا من الحقائق الثلاث السابقة, فهي أن الفرق المختلفة لها قدرات متنوعة علي التعامل مع الضغوط النفسية والعصبية والبدنية, وإذا كان هناك من سبب موضوعي واحد يعزي له ما حدث في المباراة الثالثة التي أطاحت بالأحلام كلها فقد كانت لياقة اللاعبين البائسة ساعة التعامل مع منافسة عالمية, حيث كان الفريق واستجاباته تختلف جذريا عما كان عليه الحال في المباريتين الأولي والثانية حيث استنفذت كل القدرات.
هذه الحقائق الأربع كان بوسعها أن تكون جسرا ما بين المشاعر التي استعرت والواقع الذي جري, وتجعل ما حدث معلوما ومفهوما, ومن بعده كما حدث في كل دول العالم الأخري نقلب الصفحة ونبدأ من جديد. ولكن ما حدث كان خيبة أمل كبيرة ربما ليس لأننا خسرنا بطولة, وإنما لأن الاعتقاد شاع أننا ربما لن نصل أبدا إلي تحقيق أهداف عظمي قد تكون كأس العالم, أو تكون مكانة بين الدول العظمي والمتقدمة في دنيانا. وهذه هي لب القضية كلها, ومن يظن أننا نتحدث عن كرة القدم منذ البداية ربما ضل الطريق, وما عشناه خلال الأيام القليلة الماضية لم يكن إلا كاشفا عن واقع اقتصادي واجتماعي وسياسي محدد يبدو وكأنه يتأرجح في حديقة الملاهي العالمية ما بين الصعود والهبوط, والتقدم والتخلف, والنمو والتراجع, والعلم والجهل. وفي كل الأحوال يبدو المجتمع والدولة وكأنهما ساعة المحاولة والسعي يفتقدان في النهاية إلي اللياقة البدنية والذهنية اللازمة للتعامل مع واقع تنافسي عنيف, والاستجابة المرنة للتغيرات التي تجري فيه وبسرعة مخيفة.
وعلي مدي تسعين دقيقة كاملة في المباراة الأخيرة كان واضحا تماما أن القامات العالية لدفاع الفريق الأمريكي سوف تمنع كل راتنا المرتفعة من الوصول إلي المرمي, ومع ذلك جري الإصرار حتي اللحظة الأخيرة علي القيام بذات الرفعات وبنفس الطريقة.
وببساطة كان الفريق القومي يقوم بما تقوم به مصر كلها طوال الوقت, وهو أن نبقي الأمور علي حالها, وعندما نسعي إلي تغييرها فإننا نفعل ذلك مصاحبا بقدر غير قليل من الاعتذار; بل أن هناك منا الذين يريدون استعادة أحوال عقود أو قرون مضت باعتبارها عصورا ذهبية آن أوان استعادتها بالقوة أو بالحيلة أو بالصبر حتي يبلغ بنا الإعياء مداه بين النصر والهزيمة, والسخونة والبرودة, والحماس وخيبة الأمل, فتسقط مصر مثل الثمرة الناضجة إلي أرض تجربة عقيمة أخري. وبالوسع هنا تعداد الأمثلة: التنمية التي تحدث لبضع سنوات( الصمود أمام البرازيل والفوز علي إيطاليا) ولكننا لا نصل أبدا إلي الحالة' المستدامة' والتي ساعتها تأخذ كرة القدم حجمها الحقيقي من اهتماماتنا الوطنية; والديمقراطية التي تجري فيها انتخابات كثيرة,
ولكن لا أحد بعد ذلك يرضي عنها أبدا; والعدالة التي يجري فيها التوزيع علي قدم وساق في أشكال مختلفة من الدعم, ولكن النتيجة تكون دائما أن الأقدر والأسعد حظا هو الذي يحصل علي ما هو أكثر; وبينما يحصل العمال والفلاحون علي نصف المقاعد في المجالس المنتخبة فإنهم لا يحصلون أبدا علي نصف العائد من الناتج المحلي الإجملي؟!.
القائمة بعد ذلك طويلة, ولا يوجد أبدا نقص في المحاولة والاجتهاد, وبالوسع تعداد الكثير من الانتصارات ومرات الفوز, وخلال السنوات الأخيرة كانت هناك اختراقات واسعة كثيرة في معدلات النمو, والبنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وبالتأكيد الإعلامية, ولكن أيا منها لا يبدو مستكملا لحالة من اللياقة البدنية والنفسية التي تجعل الحالة المصرية شبيهة بتلك الحالات الأخري في المكسيك والبرازيل وتركيا وكوريا الجنوبية التي مرت بحالات مشابهة من المجاهدة للذات والواقع بحيث يكون التغيير كليا وشاملا ومستقرا وقادرا علي اختراق حجب وحواجز لم يسبق اختراقهما من قبل.
هل الطريق مغلق أمام هذه الإمكانية لكي يكون لدينا ما يكفي من اللياقة السياسية والاقتصادية لإصلاح ما وجب إصلاحه بحيث نصل بالطريق إلي آخره وبالهدف إلي مستقره, أم أن الإمكانية متاحة فتصل الطائرة إلي نهاية ممر الانطلاق ثم تستجمع قدراتها وعزمها فتنطلق إلي الفضاء؟ والإجابة هي أن الطريق ليس مغلقا بل أن الفرص فيه بلا حدود, والإمكانية متاحة ليس فقط لأن ثروات الوطن طائلة, أو لأن بمصر مواهب لا تحد, ولكن لأن كثيرين سبقونا إلي حيث نريد الوصول, وكل ما نحتاجه هو أن نعرف أنه لا داعي لاختراع العجلة من جديد, وأن التدريب والعرق والجهد هو ما ينقلنا من مرتبة إلي أخري أرقي وأعلي. هل نتحدث عن كرة القدم أم مصر, أظن أننا نتحدث عن كلاهما معا, فلا تهنوا ولا تحزنوا وتعالوا نراقب المباراة القادمة, والأهم نبحث عما سوف نفعله بعد الأزمة الاقتصادية الراهنة ؟!.
نقلا عن الأهرام |