CET 10:17:53 - 23/06/2009

مقالات مختارة

بقلم: عزت القمحاوى

وسط علامات الموت تأتى لحظات إفاقة نادرة تتمثل فى انتصار للمنتخب الكروى أو ميدالية يحصل عليها لاعب قوى فى دورة أولمبية، وكأنها ارتعاشة جفن أو حركة مفاجئة فى أحد أطراف المحتضر، يعود بعدها إلى السكون المحزن.

وتترصد النخبة الواعية النظام السياسى ورموزه وتخصهم بالذم وتحملهم مسؤولية الانهيار، وهذا عادل إلى حد كبير، فالسمكة تتلف من الرأس كما يقول الصينيون، السادة الحقيقيون للعالم اليوم.

الحكمة الصينية صحيحة، وإلا ما كانت صينية أو حكمة أصلاً، لكن فى حالتنا ينقصها بعض التفاصيل. ومن يتأمل أحوالنا يكتشف أننا لم نصل إلى هذا الدرك من الضعف بفضل عبادة الفرد فقط، بل بفضل عبادة المجموع أيضاً.

ولسنا بدعة فى ذلك، فكل الديكتاتوريات الغميقة تفعل هذا للتعويض؛ فالشعب الذى يضع الزعيم رجله على رقبته عليه أن يفخر لأن رجله على رقاب الشعوب الأخرى، وهو أفضل منها!

ستون عاماً والنفاق طالع نازل فى اتجاهين. نفاق للبطل الفرد، ونفاق للشعب المعجزة الذى أنجبه.

اللى حررنا جمال (عبدالناصر طبعاً) الفرد ولكن معه (الشعب الفرحان تحت الراية المنصورة) ربما ليس من العدل أن أستقى المثال من أشعار صلاح جاهين الذى كان صادقاً فى إحساسه، لكن الصدق ليس الفضيلة الوحيدة. ولم تكن أغنيات الصادقين وحدهم تصنع هذا التبادل فى النفاق بين الفرد والمجموع، أو بين الزعيم الملهم والشعب الفرحان بإلهام زعيمه.

تمجيد الذات الكاذب أتلفنا، وترك لنا التكاره الصادق، ولكن الصامت أيضاً، مع كارثة لم تجد من يحلها إلى اليوم، هى كارثة الخمسين بالمئة عمال وفلاحين فى البرلمان. هذه الكارثة نتجت عن تمجيد طبقة تدهورت أحوالها، ولم يبق من مجدها إلا هذه الذكرى السيئة من ممثلين يجمعون بين الفساد والجهل، بينما يقتصر الممثلون الآخرون على الفساد فقط.

وعلى الرغم من أنه أصبح بوسعنا أن نقول للأعور فى كرسى السلطة: «لا مؤاخذة انت ممكن يعنى تكون لامؤاخذة أعور والله أعلم» فإننا لا نستطيع أن نقول للأغلبية التافهة أنت لا مؤاخذة تافهة وتستحقين نظاماً أقل كفاءة وأكثر فساداً من هذا النظام.

الخوف من الخليط العشوائى المسمى بـ «الشعب» والحياء من مواجهته بأخطائه والتحرج من شبهة ذم «الوطن» الذى ليس فيه من ملامح الأوطان إلا الادعاء اللغوى الكاذب، هو العقبة الحالية فى طريق أى إفاقة نرجوها.

النتانة ضربت فى الجسد، ولا يمكن أن نكتفى بتنظيف رأس السمكة فقط؛ فلم تعد ثقافة عدم الإتقان تخص نظاماً فاسداً يفرغ المستشفيات وينصب على أسوارها خيام القوافل الطبية، ويبور الأرض الزراعية ويزرع الصحراء، ويجوع المدرس ويطلق سعاره ليغتصب جيوب أولياء الأمور وأجساد التلميذات والتلاميذ.

التفاهة نفسها تشمل العامل المصرى الذى لم يعد مرغوباً فيه فى سوق العمل الخارجية، وبدلاً من أن يحسن أداءه يدعى أننا مكروهون، وأن الآخرين يحقدون علينا.

هذا العامل، الذى قد يكون سباكاً ما إن تطلب مساعدته حتى يحولك عبداً فى بيتك. عندك مفك صليبة؟ عندك شنيور؟ عندك كماشة؟ عندك شعرة كتان؟ لا يسأل نفسه إذا كان عندك كل هذا لماذا طلبت خدمته؟ وإذا انتهى من العملية المشكوك فى نجاحها فإنه يترك وراءه ساحة معركة لا ينقصها إلا الدم، ففيها الطين وبقايا الأسمنت والبلاستيك والحديد.

ولن يصلح معه العتاب الإنسانى، ولن يصلح الخناق، لأنك حتى لو توصلت إلى طرده سيأتى الآخر ليطلب الطلبات نفسها، وستعمل صاغراً فى مهنة مساعد سباك التى رفضتها مع الأول. وسيكون عليك فى النهاية تحمل فاقد الوقت فى التبديل بينهما، وبدلاً من إزالة طين زوج واحد من الأحذية سيكون عليك التنظيف مكان زوجين.

حاول أن تنسى ما فعله بك السباك وتوجه إلى مطعم من الذى يجب أن يكون ممتازاً، وتأمل الخس أو البقدونس الذى جعله فرشة تزيينية لطبقك. من ذبوله ووساخته وسواد لونه لن تشك فى أنه رفعه منذ أيام من مقلب الزبالة المجاور.

ويجب ألا تستقل تاكسياً بين الخلاص من السباك والوصول إلى المطعم، فهذا سيكون أكثر من أن يحتمل، لأن السائق المتعرق لم يضع فى حسبانه أنك ستكون بحاجة إلى فتح أو إغلاق الزجاج، وأنت وحظك، فقد يكون مفتوحاً على الدوام بلا زجاج أو مغلقاً بلا أكرة لفتحه عند الضرورة، ومع رائحة العرق والتراب على الكرسى القديم المغطى بكليم مترب وبين رائحة العادم المتسربة إلى داخل التاكسى، ستدوخ ولن يكون بمقدورك أن تناقشه لماذا يطلب ثلاثين جنيها فى مشوار يستحق عشرة، ولماذا يبالغ فى طلباته بينما لا يقدم الحد الأدنى الواجب عليه!

هذا لا ينفى أن السمكة تتلف من رأسها، وأن كل هذه المشكلات كان من الممكن أن تجد حلولاً إدارية، لكن ذلك لن يحدث إذا اكتفت النخبة الواعية بذم السلطة، ولم تصارح الشعب بحقيقة تدهوره، وأن تذكره بأننا بشر عاديون، لسنا أفضل من غيرنا لكى نرضى بعجزنا وتخلفنا وقذارتنا، ولسنا أقل لكى نيأس من الإصلاح. وعلى كل منا أن يستحى من الاستنطاع الذى يمارسه على الآخرين.

*نقلاً عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع