CET 00:00:00 - 22/06/2009

مساحة رأي

بقلم: نذير الماجد
أتساءل فيما لو حكم الشعب الإيراني نظام يشبه أحد الأنظمة العربية القمعية فهل كان سيبقى في السلطة يوما واحدا؟ هل سيتمكن من إسكات شعب متمرد مفطور على التغيير وعاشق للحرية كالشعب الإيراني؟ هل ستنجح ديمقراطيات الـ"99،99%" المنتشرة في العالم العربي في إشباع نهم وجوع شعب بكامله للحرية والانعتاق من زنازين الاستبداد وأقبية السجون؟ هذا السؤال يلح على نفسي كلما وجدت تباكيا بدموع التماسيح على انتهاك الحرية وسرقة الانتخابات في إيران من هؤلاء الذين يلعقون أحذية السلطان ويكرسونه كاستبداد رابض على شعوب مغلوبة تستعطف الزعيم أو الأمير أو الشيخ عله يمن عليها بنسمة من نسمات الحرية. ولكن ماذا لو عكسنا المعادلة وتحدثنا عن نظام عربي يسمح بتداول السلطة ولو شكليا فهل كنا سنشهد ما يماثل الاحتجاجات التي تجتاح إيران بعد ثلاثين سنة من عمر الثورة التي أطاحت بالشاه؟ هل كنا سنجد شعبا مشاغبا مهووسا بكل ما يمت بصلة إلى الحرية أو التغيير؟ أسئلة كثيرة تتلاحق وتفضح أعداء الحرية وسدنة الاستبداد الذين يتوارون اليوم خلف دعاوى الانتصار للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان فيما هم الحماة والأبطال الأشاوس المدافعين عن قلاع النظم الشمولية المنتشرة في عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج.

الشعب الإيراني شعب مشاكس عاشق للحرية والمشاغبة وأي نظام مناوئ للحرية والديمقراطية لا يمكن أن يتعايش معه، ثلاثة عقود من عمر الثروة لا تكفي لجعل شعب كهذا شعب خانع مستسلم لقدره، الأقدار تصنعها الشعوب، وكل شعب يتشكل من أفراد كل واحد منهم يدرك أنه قادر على خلق مصيره ومستقبله لا يمكن أن يذعن ويرضى بسهولة، إن التاريخ في إيران تكتبه الدماء والثورات، فالشعب الايراني شعب ثائر بطبعه وهذا هو الحظ العاثر الوحيد الذي يعيق ويحول دون استقرار كل نظام إيراني، فمن سوء حظ النظام الإيراني أنه يحكم شعبا كهذا الشعب الذي هو المنتصر الوحيد في كل هذه المعمعة والهياج العارم في طهران وبقية المدن الايرانية.

الثورة على الثورة ليست انقلابا أو تدميرا لمنجزات الثورة التي سارع أمثال ميشيل فوكو للتصفيق لها، والذين يقودون الاحتجاجات اليوم هم أنفسهم أبناء الثورة التي أطاحت بنظام السافاك القمعي السادي، إن الثورة لا تصفي ذاتها وإنما تمنحها جرعة حياة، كطائر الفينيق الذي يجدد ذاته كلما آنس خمولا أو تراخيا، وهذا هو تماما ما يحدث في إيران التي هي بعد الانتخابات ليست هي ذاتها إيران ما قبلها، فالشعب الغاضب لن يغادر الشارع إلا بعد أن يتجاوب النظام المحتضن لثورة 1979 مع المطالب التي لا تقتصر على تعديلات طفيفة في نتائج الانتخابات أو إهداء السلطة على قالب من ذهب للمرشح الأبرز في المعارضة : مير حسين موسوي والمدعوم من رفسنجاني وخاتمي، إن ما يحدث في الشارع هو مؤشر على رغبة لإحداث التغيير بدأت تعتمل داخل الوجدان الإيراني، وإذا لم يكن كل الشعب يطمح لمثل هذا التغيير فإن شريحة واسعة منه على الأقل تشعر بأهمية تجاوز الخطاب السياسي الذي يتبناه النظام الحالي نحو خطاب ذي خصائص وأهداف وأجندة مختلفة لا تهمل العناوين الأساسية التي ارتقت اليوم إلى أن تكون قيم كونية كحقوق الإنسان والحريات وما أشبه، ولا خيار أمام النظام الإيراني لحل هذه الأزمة المتفجرة إلا باحتواء النقمة المتصاعدة بتعزيز القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

الأزمة التي تعصف بإيران كشفت عن انقسام وشرخ حاد بين من يحمل شعار التغيير أو الاحياء للمبادئ الأساسية التي قامت عليها الثورة وبين تيار الاستمرارية والرؤية المحافظة لنفس المبادئ، التيار الأول استقطب إلى حد الآن وجوه أساسية في النظام كالرئيس السابق والزعيم الاصلاحي الكبير محمد خاتمي والرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني والذي يرجح أن يستميل قوى البازار إلى جانبه مما يمنح هذا التحالف مكسبا إضافيا لم يكن متاحا في تلك الثورة التي أفرزتها صناديق الاقتراع في العام 1997م مع مجيء محمد خاتمي إلى السلطة.

البازار كان له دورا حاسما في التاريخ السياسي المعاصر في ايران، في ثورة 1979م كما في ثورات أخرى كثورة التنباك التي حظيت بدعمه آنذاك أو ثورة الدستور في نهاية القرن التاسع عشر، البازار الذي كان قبل الانتخابات الأخيرة داعما أساسيا للقوى المحافظة والتي ترفع لواء الاستمرارية ورفض أي شكل من أشكال التغيير سيشهد على ما يبدو انعطافة حاسمة بعد الانتخابات، فانضمام رفسنجاني للقوى الاصلاحية والتي تسوق اليوم في وسائل الاعلام الأجنبية كمعارضة من خارج الثورة قد يجلب في طريقه قوى البازار المحافظة إلى جانب الاصلاحيين وهو ما يعني أن هذه الأحداث تختلف تماما عن تلك الأحداث المريرة في العام 1999م، كما يعني وجود جدية في التعاطي الاصلاحي مع مطلب التغيير، لأن الارتباط الكلاسيكي للبازار بالبراغماتي رفسنجاني حال حتى هذه اللحظة دون تقاسم السلطة بين جناحي الثورة، وهو الأمر الذي ستترشح عنه الأحداث الأخيرة، كما يتوقع أكثر من مراقب ومختص بالشأن الايراني. أما التيار الآخر والذي يتفرد بكامل السلطة حتى الآن فهو أمام اختبار حاسم في معالجته للأزمة فالسؤال المطروح: هل سيقبل هذا التيار بإشراك الاصلاحيين في السلطة وتمثيلهم في المؤسسات التي تعنى بالإستراتيجيات والأمن القومي والمحسوبة تقليديا على معسكر المحافظين، أم سيستمر في تجاهل وتهميش شريحة عريضة ومهمة في الشعب الايراني وبالتالي اخماد رغبات التغيير وهو الأمر الذي سيدفع بالشعب الايراني ومعه الدولة والاستقرار إلى السقوط في هوة المجهول ؟

مهما يكن فإن رياح التغيير لا يمكن أن ترجع بإيران إلى الوراء، وهذا ما يقود إلى الاعتقاد بأن الشعب الايراني هو الرابح والكاسب الأخير من هذه الأحداث، سواء بالنسبة إلى المعارضة أو السلطة، لأن المعارضة نفسها ليست سوى تيار عريض منبثق من داخل الثورة وليس من خارجها، علاوة على انضمام رموز مهمة في الحوزة العلمية في قم كآية الله صانعي وآية الله منتظري وغيرهما، فتجاهل تيار عريض كهذا ليس في صالح الجميع، و لا يمكن احتساب كل هذه الرموز كأتباع للأجانب أو اعتبارهم طابورا خامسا يستهدف زعزعة الاستقرار وأمن النظام، وعلى الرغم من ايحاءات العقلية التآمرية حول وجود لمسات لأصابع أجنبية إلا أن هذا الجناح يتمتع كما يتمتع تيار السلطة بشريحة واسعة وتمثيل كبير في الشعب الايراني وحضور ممتد منذ الجيل الأول الذي ساهم في تثبيت دعائم النظام بعد ثورة 1979م، لهذا السبب فإن مسؤولية تصاعد الأزمة وديمومتها تقع في الدرجة الأولى على كاهل من يتحدى الجماهير بقمعها ومصادرة حقها في التظاهر والتعبير عن الرأي. لكن المفاجئ في هذه الأحداث ليس فقط استفحال المأزق واحتدام المواجهات وجديتها وخطورتها وإنما أيضا اصطفاف مارد الاستبداد الخارج من قمقمه إلى جانب دعاة الحرية وعشاقها، الغريب أن تستبسل وسائل إعلام مدعومة من التوتاليتاريات المنتشرة في العالم العربي في مناصرة هذا التحرك الجماهيري، وكأنها بمنأى عن أي أزمة أو احتجاج أو معارضة، أو أن أحداث ايران تصب في صالحها، فيخيل لها أن هذا الحريق والبركان المتأجج لن يطال بحممه العروش الساكنة والرئاسات المؤبدة في الوطن العربي، ولأن هذا الهياج لن يمتد إلى خارج ايران التي هي قلعة للشر ونكاية بها وليس رغبة في مساندة هذا التيار أو ذاك توصلت وسائل إعلامنا إلى وجوب مناصرة الاحتجاجات، ولا غرابة فيما لو انبعث ديكتاتور مستبد كصدام من قبره لكي يطعن في التلاعب في أصوات الشعب، لا غرابة في أن تخصص الوسائل الاعلامية المملوكة لهذه الملكية المطلقة أو تلك جل اهتمامها في تغطية الحدث الايراني، متناسية أن دولها تحظر أي شكل من أشكال التظاهر والتعبير عن الرأي، حتى وإن كانت تستهدف مناصرة القضايا الحاسمة والمفصلية في العالم العربي كالقضية الفلسطينية أو غيرها.

دول عريضة تمارس السادية مع شعوبها بدت الآن بازاء الحدث الايراني أعرق الديمقراطيات. وزراء قمعيون يهيمنون على الصحافة والاعلام ويسارعون على طريقة الحجاج إلى قطف الرؤوس اليانعة ثم ينتصرون للحرية بادانة الظلم المخيم على الشعب الايراني الشقيق! وفيما هم يتناسون سجلاتهم الملطخة بانتهاكات فادحة لحقوق الانسان فجأة ينددون باسم كرامة الانسان بممارسات العنف على الضفة الشرقية من الخليج، متناسين أن في سجونهم وأقبيتهم سجناء رأي، وأنهم أبعد ما يكون عن تداول السلطة أو تقاسمها وأن لهم سياسة شمولية تقوض كل رغبة في التعدد وتلوين المشهد السياسي بأطياف متعددة. دول كهذه ليست مؤهلة للحديث عن حرية أو قمع وهي في أغلبها دول قمعية بوليسية جاهزة لإفناء شعب بكامله فيما لو تعرض الكرسي إلى الخطر، قد يتفهم المتابع القلق الذي ينتاب رئيس دولة ديمقراطية تحترم حقوق الانسان، لكنه لا يمكن أن يفهم كيف يجوز لجمهوريات الخوف والتوريث والملكيات المطلقة أن تزأر وتزعق وتتحدث عن انتهاكات للانسان وكرامته وحقه في اختيار مصيره حتى أن المرء ليظن أن شيئا من نزق ثوري قد أصابها بالمس فبدت ثورية تستنشق نسيم الثورات المخملية، وخلاصة القول أن الحدث الايراني أتحفنا بمفارقة مدهشة هي أن المتباكين على الحرية في ايران هم استبداديون حتى النخاع في أوطانهم.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق