بقلم:عزت بولس
كثيرًا ما تساءلت هل الإرهاب كسلوك هو فقط ما يظهر لنا على شاشات التليفزيون من خلال نشرات الأخبار في صورة تفجيرات شديدة العنف والدموية لأماكن بعينها سياحية الطابع في غالبية الأحيان أو لتجمعات يخالف أعضائها المذهب الديني للقائم بالتفجيرات كما نرى من حين لأخر بالعراق؟ لكنني وبعد تفكير ليس بطويل أيقنت تمامًا أن كل تلك السلوكيات العنيفة ليست وحدها الممثلة لفعل"الإرهاب" فذلك الفعل المقيت يمارس علينا ليس فقط من المنتحرين الطامعين بحوريات السماء، وإنما تمارسه المؤسسات المختلفة الدينية والحكومية وغيرها داخل المجتمعات المغلقة-مع اختلاف وسيلة كل مؤسسة في تنفيذ إرهابها- بل أنه يمكنني القول أن المجتمعات المغلقة التي تعيش بها تلك المؤسسات القامعة لا تطور شيئًا من واقعها بقدر قدرتها الفائقة على مد القائمين على تلك المؤسسات الأدوات اللازمة لابتكار أنماط جديدة من السلوك لإرهاب أبناء تلك المجتمعات.
المؤسسة الأمنية داخل المجتمعات المغلقة هى الأكثر قسوة في ممارسة السلوك الإرهابي على الأفراد،ولتاريخها الطويل الحافل بالسلطة المطلقة لممارسة القمع والعنف يخاف الناس الوقوع تحت يد تلك المؤسسة أكثر من خوفهم من أي شيء أخر على الإطلاق لتظل الأفكار حبيسة قضبان سجون الخوف بما يقتل موهبة استقلالية الآراء ومتعه الإجهار بها،وذلك بغض النظر عن الكيفيات المتعددة لتقييم ما تحويه تلك الآراء من أفكار.
التفكير وإبداء الرأي والتعبير بما يعكس توجهات كل فرد هو حق انسانى مشروع والعمل على كبت ذلك الحق في نفوس الأفراد لصالح توجهات بعينها إنما يولد شعور بالكبت ومن ثم الكراهية والذل،وكل تلك المشاعر السلبية لا تصنع مواطن سوى يتبنى الأفكار ويدافع عنها ويطورها ويتطور بها فيثرى المجتمع فكريًا ويشعر هو بالراحة والاطمئنان وتتركه الهواجس والأرق.
وفي ظل قمع وعنف قاسي لتلك المؤسسة الأمنية ليس من العجيب أو من المستبعد أن يشعر المواطن أن رجال تلك المؤسسة لا يعملون على حمايته وإنما إهانته وتعذيبه إذا احتاج الأمر لذلك لأنهم-أي رجال المؤسسة الأمنية-دورهم لا يمتد لما هو أبعد من حماية أمن واستقرار نظام الحكم القائم،في المجتمعات الأخرى الحرة رجال المؤسسة الأمنية لا يشكلون رعبًا للمواطن الصالح الذي يحترم القانون وحتى مع الخارقين لذلك القانون هناك وسائل للمعاقبة دون إرهاب وإذلال وإهانة.
أثناء إقامتي فترة ليست بالقليلة بالقاهرة تعجبت كثيرًا من استمتاع أو لأكون أكثر دقة أقول استسلام كثيرين لما يمارس عليهم من"إرهاب فكري" تكمن خطورته بأنه غير منظور يصعب إثباته لمعاقبة القائمين على تنفيذه بحقنا أو حتى نقدهم لما يفعلونه تجاهنا من أخطاء تدمر شخصياتنا وتحولنا لكائنات تابعة لمنظومة فكرية وقيمية بالية تحتاج ليس للرتق فقط وإنما التغيير الكلي،الذي يدعو للأسف في ذلك الأمر هو بحثنا نحن كأفراد في بعض الأحيان على الأفكار التي من شأنها أن ترهبنا فكريًا وتعذبنا نفسيًا عندما يقتحم عقلنا أفكار خارج إطار المنظومة الفكرية والقيمية لمجتمعنا المغلق بل أن بعضنا يستغرق في إرهاب ذاته بأن يذهب لأفراد تابعين لجهات بعينها"دينية" غالبًا ليقيم أفكاره التي تقع خارج منظومة مجتمعه فيسمع عبارات من قبيل" استحمل مصائبك ولا تكفر يا راجل بقضاء الله وعليك ان تتقبل الأمر الواقع،بص للي حواليك أنت حالك أحسن بكثير من غيرك،واللي يشوف مصائب غيرة تهون علية مصبته"إلى أخر الشريط المتداول استخدامه لدفع الفرد دفعًا لقبول واقعه الغير مرضي بالنسبة له،ثم يعقب هذا انخراط في سلبية فكرية قاتلة ونتحول من منتجين لأفكار إلى مستجديين للأفكار من الآخرين لأن الرهبة تلاحق عقلنا فتشله عن التفكير لنرتكن إلى قناعات وأفكار القدماء وليس إلى قناعاتنا نحن الحقيقية.
تلك الديكتاتورية التي يفرضها المجتمع عبر منظومته القيمية المتحجرة تجعلنا مع الوقت نمجد كل من يمارسونها علينا،ولا عجب أن يشعر كل من يصفه معارفه بأنه"ديكتاتور" بالزهو والفخر فذلك اللقب يشعر صاحبه بأنه في قوة سلطة مجتمعه القاسي والجميع ينصاع له خوفًا.
"الإرهاب فكرى" لا يقتل الجسد ولكنه يقتل ما هو أغلى محفزات "التفكير الإبداعي" بداخلنا ويفرض علينا عنوة نمط متحجر يجعل الفرد بعيدًا كل البعد عن التطور الفكري الإيجابي ومن ثم مسايرة التطور وكأن التفاعل مع التطور يساوي في أذهاننا فقدان هوية الذات ولهذا نتمسك بمبادئ ثابتة لا نفكر فيها لأنه لا ينبغي لنا التخلي عنها حتى لو كانت كل المؤشرات السليمة تؤكد أن الإيمان بالثوابت لا يدوم لأسباب طبيعية مثل تغير الفكر والاراء مع التقدم فى العمر والنظر الى الأشياء بعين أضافت لها السنين والتجارب خبرة وحنكة إضافة للأسباب الأخرى الحضارية التي تؤكد أن كل فكر مناسب لوقته وليس عابر للأزمنة التاريخية.
أخطر أنواع"الإرهاب الفكري" هو ذلك الذي يستعمل الدين فعليك أن تتقبل كل ما يقال لك من رجال الدين دون مجادلة،بل ينبغي عليك الانصياع لأرائهم دون أن تملك الحق في رؤية ما يمكن أن تطلق عليه "سلبية" وبهذا يتحول الفرد لكفيف في الرؤية باختيارك مستمتعًا بما يتم تعبئته داخل عقلك من فكر قد يقودك للتحول من شخص مسالم الى شخص عدواني ارهابى وبغض النظر عن رؤيتك أنت للصواب والخطأ المناسب وغير المناسب.
نحن نتشدق بحرية الرأي والتعبير ونتلفظ بمصطلحات لا نعنيها غالبًا فاختلاف الرأي يفسد للود قضايا والديمقراطية تظل كلمة وليس ممارسة،وتعنى طالما أنت أرائك تتوافق مع أرائي فلك مطلق الحرية في طرحها ونشرها، وإذا ملكتك الجرأة يومًا وتطور تفكيرك مع تطور خبرتك التي من المفترض أن تكتسبها مع مرور السنين واتخذت موقف عن اقتناع مخالف فعليك باستقبال اللعنات والاتهامات وأعلم جيدًا أنه في ذلك الموقف سيتكاتف الأصدقاء مع الأعداء في القيام بـ"هجوم فكرى إرهابي" على سيادتك لأن فكرك انحرف وجرؤت على الجهر برأيك.
إذن فخلاصة القول أن مفهوم الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير محدود فهمنا له ومحصور في نطاق ما نريد أن نفهمه نحن وليس بما تحتويه الكلمة من معاني وتحمله من مبادىء تحتاج منا لنضج فكري لممارستها بالمفهوم السليم،ليبقي التأكيد على أن مستقبل التطور والتقدم والحضارة مرتبط طرديًا بتحرر أفكارنا وارتباطها بأفكار الغير والاقتناع بما نراه لنا مناسب لقناعتنا الشخصية وليست لقناعه من هم يعلنون الوصاية علينا. |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|