عندما دُعيت للمشاركة بكتابة في نشاط "أقباط متحدون", سعدت بهذه الدعوة لأكثر من سبب ولكن يأتي في المقدمة هو أن متابعتي لنشاط الموقع تجعلني أشعر بصدق "رسالته المعرفية" التي تسعى للبحث عن حلول ترفع عن كاهل الوطن المصري جانباً -مهما كان قدره- من الهموم هذا الوطن التي أصبحت ثقيلة لينوء بها ويحتاج إلى مَن يرفع عنه عبئها حتى لو كان ذلك بالتدريج, فإزالة تراكمات عقود من الزمن قريبة وقرون منها قبلها لا تأتى دفعة واحدة, فكلما تراكمات هموم هذا الوطن طبقات فوق طبقات فإن رفع ركامها يقتضي جهداً فائقاً مقروناً بالزمن في نفس الوقت وهو زمن لابد أن يمتد ولكن تحديده بصفة تقريبية يتوقف علينا نحن المصريين: هل نرغب في رفع هذا الركام أم لا؟ وإذا رغبنا فهل نؤمن بقدرتنا على تحقيق هذه الرغبة؟ فإذا آمنّا بذلك فهل نستطيع أن نضع برنامجاً نعمل من خلاله ونحن نحدد فيه أولوياتنا في هذا المجال؟ وهل سنعمل بالفعل على تنفيذ هذا البرنامج بكل همة وبكل دقة معاً؟ إنها التساؤلات التي تفرض ذاتها ونحن نتطلع من خلال "أقباط متحدون" إلى المساهمة في عتق وطننا المصري من بعض همومه.
وإذا كنت قد اخترت عنواناً لهذا اللقاء الأسبوعي باسم "الركن الهادي" فأنا أقصد ذلك تحديداً فالهدوء مطلوب دائماً لتوفير فرصة التفكير الموضوعي في أي شأن من الشئون, فما بال الحال إزاء شأن الوطن الذي "يعيش فينا" على حد قول قداسة البابا "شنوده الثالث"، فالحقيقة منطقتنا التي تُعرف باسم "الشرق الأوسط" أصبح يعتمد في الترويج لطرحه على "الصوت العالي" الذي يصل في الغالب إلى حد الصخب وكأن لسان الحال عند أصحاب هذا الاتجاه, وعند مؤيديه أيضاً, يستند إلى الفكرة الشائعة عن قيمة الصوت المرتفع التي سبق صياغتها ضمن الموروث الشعبي في "مصر" تحت واحد من الأمثال الدارجة الذي يعني "خذوهم بالصوت لئلا يغلبونكم" (خدوهم بالصوت ليغلبوكم)، ولعل هذا الصخب هو الوسيلة الفعالة المتاحة أمام أغلب وسائل الإعلام ومصادرها في منطقتنا من أجل أن تستر بها عورات مجل الأفكار التي تطرحها والاتجاهات التي تروج لها, وهي بالحقيقة عورات كثيرة أو لتمرر بها أفكاراً أقل ما يمكن وصفها بها هي أنها تروج لمصالح آخرين كثيرين لا يهمهم من شأن وطننا المصري إلا أن يكون مطية لأصحاب هذه المصالح.
فإذا كنّا نستطيع أن نتفق بصفة مسبقة على سلوك النهج الموضوعي في محاولاتنا تجنيب سفينة الوطن المصري الأخطار التي تعترضها فتتكاثر في مواجهتها, فضلاً عن العمل على تخليصها من جنوحها الحالي الذي يحدق بسلامتها بالفعل فإن ذلك يقتضي منّا أن نعالج عدداً غير قليل من الموضوعات الراهنة وأن نحقق من خلال ذلك عدداً غير قليل من المسائل التي تتفق وهذا النهج الموضوعي.
ويأتي في المقدمة هذه المسائل تقدير حقيقة ما نعرفه عن حياتنا العامة لمواطنين مصريين؛ ذلك أن دروب المعرفة متعددة؛ إنما المهم هو أن يقرر الإنسان أن يسلك فيها بمنتهى الجدية والفعالية معاً. ولعل أول طرح يفرض ذاته على معارفنا أن تتذكر ذلك المقولة الخالدة أبداً وهي: "اعرف نفسك". ولكن هذه المعرفة ذاتها لا يمكن أن تكتمل بل لا تكون قابلة للاكتمال إلا بمعرفة الآخر وبقدر الإجادة المطلوبة لكي تعرف نفسك لابد من الإجادة في البحث عن معرفة بالآخر فأنت والآخر –على أية حال– وجهان لعملة واحدة، و"الآخر" –هنا– مصلح ينطوي تحته كل من يغايرك في أي شيء: الوطن – العقيدة الدينية – الاتجاهات والميول السياسية - ......الخ . وتصبح المعرفة بالآخر داخل الوطن الواحد مطلباً أساسياً ومُلحاً في نفس الوقت، فإذا عرفت من أنا (الإنسان الفرد /الجماعة/....الخ) وماذا أريد, وماذا أستطيع أن أحققه وكيفية ذلك...الخ فإنه يصبح من الضروري أن أعرف جيداُ من هو الآخر وإلى أي تراث يسند؟ وأية ثقافة تغلب على اتجاهاته المعرفية؟ وماذا يريد الآخر هو أيضاً وعلى وجه التحديد؟ وكيف يتم التنسيق بين رغباتي ورغبات الآخر؟ وبين احتياجاتي واحتياجات الآخر؟ وبين طموحاتي وطموحات الآخر؟ أي اشتباك عند التعارض, فضلاً عن تحاشي هذا الاشتباك وتجنبه من باب أولى؛ فالوقاية -دائماً- خير من العلاج.
فإذا اتفقنا على حقيقة أن الضرورة تقتضي أن يعرف الإنسان نفسه من خلال نفسه ومن خلال الآخر في آن واحد, فإن هذه الضرورة ذاتها تفرض علينا أن نلاحظ أن جانباً مهماً جداٌ من هذا (النوع من المعرفة) يرتبط إلى حد كبير بفكرتين تؤكدان على حضورهما الفعال في هذا المجال المعرفي, وهما "الانتماء" و"الميول"، فجزء كبير جداً من إمكانيات التعارف على الذات يتشكل من خلال تحديد الانتماء وفي نفس الوقت من خلال إدراك الميول، فالإنسان (الفرد / المجتمع) من الممكن أن يكون متعدد الانتماءات.
فعلى سبيل المثال أنا مصري مسيحي اعمل عضواً بهيئة التدريس الجامعي واحترف كلاً من الإخراج والتصوير والكتابة للسينما, وأشارك بالعضوية في عدد من المنظمات المهنية وعدد من أنشطة المجتمع المدني وأمارس كتابة الأدب, ........الخ, ولكن المهتم في هذا المجال هو ترتيب هذه الانتماءات من خلال أولويات معينة وهذا من الممكن أن يظهر تأثير الميول الشخصية في ترتيب هذه الأولويات، والميول الشخصية ليست مسألة ذاتية فحسب, أي ترتبط بكل إنسان على حدا فقط بل هي –فضلاً على ذلك– من الممكن أن تكون "ميول شخصية جمعية" بدءاً من الأسرة ومروراً بالمجتمعات السياسية والمهنية والدينية وانتهاءاً بالمجتمع الإنساني في مكان معين أو زمان معين........ الخ. فهناك مثلاً الميل إلى العزلة والانطواء وهو أمراً لا يقتصر سريانه على الإنسان الفرد, بل يمتد إلى الجماعات الإنسانية والتجمعات البشرية، ومن هنا ينشأ ما يعرف بالمجتمع المنعزل أو المغلق على ذاته والمعروف بمصطلح "الجيتو".
وهناك الميول ذات الطبائع العدائية التي تنتظم من خلالها مجتمعة أو مجموعات بشرية معينة ومن ذلك ما تتصف بأغلب الجماعات البدوية خاصة في العصور المنصرمة, فقلة الماء والطعام مع اعتبار العمل اليدوي من زراعة أو صناعة وغيرهما أمراً لا يليق بالذكور في هذا المجتمع ذي الطابع الذكوري الصرف عادة؛ فلا يصبح أمام مثل هذا المجتمع إلا أسلوب "الإغارة" بالاعتداء على الآخرين لسلب ما لديهم من طعام وملابس وأدوات وثروات أخرى...... الخ, أي أن هذا المجتمع يصبح مجتمعاً ذا ميول عدوانية، وكثير من المجتمعات الأوربية المتحضرة بل الأكثر تحضراً في العصر الحديث, خاصة مثل الدول الاسكندينافية بدأت قبلية عدوانية ,تمارس حياتها من خلال الإغارات الوحشية المتبادلة فيما بينها وإزاء الآخرين, ولكنها مجتمعات استجابت لفكرة التحضر على مدار بعض عشرات أو مئات السنين بالفعل في مقابل مجتمعات أخرى لم تفلح معها العشرات من مئات السنين لإنجاز مثل هذا التحول.
وفي كل الأحوال نجد أنفسنا مطالبين بالبحث في عدة وجوه أخرى في هذا المجال؛ فما هي العلاقة بين الانتماء والميول الشخصية الإنسان (الفرد / المجتمع)؟ وهل يؤثر الانتماء على الميول الشخصية أم أن الأخيرة التي تؤثر على الانتماء؟ أم أن هناك نوعاً من التأثير المتبادل بينهما؟
وإذا كان الأمر كذلك فما هي حدود هذا التأثير, بمعنى أن أيهما الأكثر تأثيراً في الآخر؟ فعلى سيبل المثال لو كانت ميولي الشخصية تتجه إلى إعلاء شأن مظاهر عقيدة الدينية على شأن الوطن الذي انتمائي للوطن, ومن ثم استطيع أن أقبل أن يحكمني سياسياً من هو ليس من أبناء وطني (أي شخص أجبني تماماً) طالما أنه يشاركني عقيدتي الدينية وبالتالي فإن ميولي الشخصية تنتهي بي إلى قبول حكم "الدولة الدينية"، وعلى العكس ذلك إذا كانت ميولي الشخصية تنمو إلى إعلاء شأن الوطن فيكون هو مقصد الانتماء لينتهي الأمر بقبول حكم "الدولة المدينة" وشتان ما بين نظامي الحكم الديني والمدني.
إن كثيراً من الالتباسات ذات الطابع المعرض أصبحت تؤثر في ثقافتنا نحن المصريين, ومن ثم في كل أوجه حياتنا العامة والخاصة أيضاً.
ولعل لقاءنا الأسبوعي في هذا "الركن الهادئ" يتيح لنا محاولات فك بعض هذه الالتباسات, سواء ونحن نحاول تفكيك بعض قضايانا العامة أو من خلال التفتيش في الكتب التي قد لا نلتفت إليها أو لا نهتم بها أو لا نعلم بوجودها, فضلاً عن مراجعة أحوال شخصيات فذة من التاريخ وطننا المصري, ومن خلال متابعة علامات مهمة من إنتاج الفن السابع في مصر وفي العالم. |