بقلم: سحر غريب
في أحد محطات مترو الأنفاق جلس الولد بملابسه التي أبدع في جعلها عنوانًا مُعبرًا عن الفقر المدقع الذي يحيا فيه، منظره يقطع القلب، يتنقل زاحفًا على يديه بين عربات القطار فيبدو على قدماه أنها مصابة بعيب خُلقي تجعله غير قادر على المشي، وملامحه البريئة تجعلك تعطف عليه وتخرج محتويات جيبك كلها، لكي تسد وحشة جوعه البادي في هزاله وضعفه الواضح.
يتوقف أمامه المارة ليقدمون فروض الجيوب بكل أريحية وسعادة فمن قدم شيء بيداه ألتقاه وهنيا لك يا فاعل الخير والثواب، فهذه سيدة وقفت لتُخرج ما معها من جنيهات قليلة لكي ترى نظرة السعادة في عينيه، تلك النظرة التي تفتقدها أعين أطفالها الذين ينامون كثيرًا بلا عشاء.
لقد آثرت حاجة هذا المسكين البائس عن حاجة أبنائها الأقل بؤسًا في نظرها، فهم على الأقل يملكون سقفًا يحميهم، وهذا رجل أخرج جنيهًا وهو الموظف المفلس أبو العيال الذي يعلم الله وحده كيف يُكمل شهره.
وبعد يوم من العناء الطويل جلس الشحات الصغير على المحطة بجوار شحاتًا آخر أصغر منه سنًا ولكنه لا يقل عنه بؤسًا.
ووسط دهشة المارة أخذ يُخرج الشحاتان غلة اليوم الواحد والتي تفننا في إخفائها عن العيون، فخرجت الجنيهات جنبًا إلى جنب مع الفئات الأكبر والأصغر، ولأنهما مجرد طفلين فقد أخذا يغيظان بعضهما البعض، فقال واحدًا منهم: شفت أنا جمعت فلوس أكتر منك.
فيرد عليه الآخر: لأ أنا أكتر.. الشراب لسة مليان عشرات.
أما ما أكمل قصة النصب التي لم يُعاقب عليها القانون الذي لا يحمي المغفلين فهو أن قاما الطفلان الذين كانا منذ قليل يدعيان أصابتهما بمرض عضال يمنعهما عن السير ليركضا وسط ذهول الحاضرون المخدوعون.
هذان الطفلان هما عينة عشوائية شوهدت بالفعل في محطة المترو، وعلى الرغم من تأكد الناس من أن هؤلاء الشحاذون ما هم إلا نصابون محترفون تعلموا أصول المهنة وبرعوا فيها بمهارة إلا أن انتشار ظاهرة الشحاتة في مصر هي نتاج رئيسي للمواطن المُغفل أو المنصوب عليه، فلو أمتنع هذا المواطن عن دفع ما معه لمثل هؤلاء النصابون لاختفت ظاهرة الشحاتة من مجتمعنا تمامًا، ولما وجدنا امرأة عجوز تقف في عز الحر على أول طريق المقطم بجوار المقابر لتمد يديها لراكبي السيارات، ولم نكن لنجد الآخر الذي يجلس على كرسيه المُدولب في ملف لعبور السيارات في أزحم شوارع فيصل ولم نكن لنجد المرضي الذين يفترشون كوبري عبور المشاة في بولاق الدكرور.
لو كان الأمر بيدي لطلبت مُعاقبة كل مَن تسوّل له نفسه ويعطي ما معه للشحاتون فهؤلاء هم الجناة الحقيقيون وهم المُحرضون على انتشار تلك الظاهرة الخطيرة في مصر مما يسيء لسمعتها أيما إساءة، يا سادة أرحمونا وأعطوا فلوسكم لمستحقيها نرجوكم. |