بقلم: نذير الماجد إن التوجس الأزلي من الطبيعة وحلم السيطرة عليها هو ما ألجأ الإنسان إلى السحر ظنا منه أن بمقدوره التحكم بسير عملياتها، وعندما تبين له الاخفاق والفشل تصور كما يفترض فريزر أن الطبيعة كالدمية تتحكم بها الروح الكلية المحايثة، قبل ولادة الروح الغيبية المغارقة، ولكن هذا الهاجس نفسه هو الذي جعل الانسان الهائم في غمار الطبيعة البكر يغامر للمرة الثالثة لكي يتوثب لاكتشاف العلم والمعرفة فكان الارتفاع أو التعري أو التمرد الذي اقترفه أمثال بروميثيوس. ثمة قاسم مشترك يربط بين التفكير السحري والتفكير العلمي هو الاعتقاد بالتماثل والانتظام في الطبيعة، فيما يقف التفكير الديني على طرفي نقيض مع السحر والعلم في آن معا. فالطبيعة التي هي ذات خصائص مرنة متحولة في المنظور الميتافيزيقي، تتسم في المنظور العلمي بالثبات والاتساق والعلية الناجمة عن تقصي الأثر الكامن في طبيعة الأشياء المتعالقة ضمن روابط وصلات دقيقة يطمح إلى اكتشافها السحر والعلم معا. ومع أن الرؤى الدينية التي كانت سائدة في هذه الأوساط ليست شمولية بما يكفي لكي تقوض أوتعيق تنامي الطفرة المعرفية، إلا أن عدم تشكل مؤسسة دينية كهنوتية تحتكر النشاط المعرفي تحت طائلة العقوبة الدينية كان هو العامل الأساس إلى جانب عوامل ثانوية أدت إلى نزوع النشاط المعرفي باتجاه التفكير الفلسفي الحر. العلم والأصولية إذن نقيضان لا يجتمعان، ذلك أن طبيعة التفكير العلمي مرنة تمنحه قابلية التمدد وسيولة الحركة في اقتحام المجاهيل، بخلاف التفكير الأصولي الذي يتسم بطبيعة متصلبة دوغمائية تراوح ذاتها وتناضل في تعطيل الفعالية الخلاقة والمبدعة للعقل البشري. وبينما ترتكز الاصولية على مقولات نهائية ومغلقة إذ ليس بوسعها التجاوب مع أي معطى خارجي يستلزم القطيعة أو التغيير فإن المعرفة التجريبية المنفتحة على شتى الاحتمالات والمشروطة دائما بمعطيات التجربة ليس بمقدورها التوسع إلا على حساب الأصولية، فاحداهما مشروطة بانكفاء الأخرى، فكما أن لمخرجات العلم صفة حتمية باعتبارها ترتكز على معايير التجربة والمعاينة الموضوعية، فإن المرء ليس بمقدوره التردد إزائها أو معادلتها بمقررات مسبقة يفرضها التعاطي المتصلب للأصولية والذي سيطغى في همنته الشمولية إذا ما ترافق مع نزعة ديماغوجية منتشرة كظاهرة قارة في أوساط الجماعة. ولفك الارتباط وكسر هيمنة الأصولية على النشاط المعرفي والذي تتبدى احيانا في تماهيات وتشوهات هجينة تصل في النهاية إلى أن تكون المعرفة هي الدين والدين هو المعرفة رغم الفوارق البنيوية، وكذلك لأن الخطاب الديني خطاب شمولي، فإن كسر الاحتكار الأصولي مشروط بتطبيق النقد التاريخي الحديث على النص الديني الذي يتأسس عليه الخطاب الأصولي بكل تجلياته. إن لحظة الاصلاح الديني تسبق الحداثة، هذه المقولة باتت من البدهيات التي لا تحتاج إلى ايضاح ورغم ذلك فإننا نجدها ماثلة كأزمة حتى في أوساط اجتماعية امتصت الحداثة وتمكنت من تحرير المعرفة، فحتى مطلع القرن العشرين لازلت المسيحية في الغرب تتلكأ في تجاوبها مع افرازات الحداثة، الكنيسة آنذاك كانت ترفض الانصياع لاملاءات التفكير النقدي، وذلك يعني ببساطة أنها لم تتصالح مع الحداثة إلا بعد صراع طويل لم ينته مع أزمة المفكر النقدي لوازي الذي أراد تطبيق المنهج التاريخي في دراسة التيولوجيا المسيحية. وفيما يقترح العديد من المفكرين تطبيق الأنثربولوجيا والتاريخ والتحليل النفسي لمواجهة تحديات الاصلاح الديني يتجه لفيف آخر إلى التأكيد على أهمية التزام الظاهراتية كما بلورها هوسرل كمنهج يحول دون الوقوع في الاجتزاء في الفهم، لأن الظاهراتية "الفينومولوجية" تسعى لتقديم الظاهرة كما تتبدى للقابع في اسارها، إنها باختصار تسعى للاندماج في الشيء وتحليله من الداخل، فكل فكرة تبدو صحيحة فقط لأنها موجودة!، لأن مهمتها الأساسية هي الكشف عن المحتجب واللامرئي المتواري خلف المرئي فتبدو الظاهرة كما تظهر للذي تظهر له. وفي تقديري أن هذا المنهج سيعالج الظاهرة الدينية بمعزل عن الاسقاطات العلمية أو الفلسفية وهو بالتالي قادر على استبعاد كل نزوع استئصالي تعسفي. إلا أن الحديث حول هذه المناهج يبدو سابقا لأوانه في ظل هيمنة كاسحة للأصولية التي تؤدلج المعرفة ومعها الدين على المؤسسة التعليمية، فالمادة المعرفة المتاحة للمتلقي مشوهة مجتزأة بغربال وفرز أصولي، لتصبح لدينا كيمياء دينية وفيزياء دينية وأنسنيات مؤدلجة هذا فضلا عن المقررات الدينية التي تستأثر بحصة الأسد في التعليم، فإلى جانب المقررات الدينية ثمة مقررات أخرى دينية بالوكالة! |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت | عدد التعليقات: ١ تعليق |