بقلم: د. عاطف نوار
1- حرية العقيدة
المواطنة ليست كلمة نسطرها في مقالات ولا أنشودة نتغنى بها في مناسبات.. بل هي حياة نحياها وواقع نعيش فيه.
المواطنة هي حصن فيه كيان الأمة يتحصن وقلعة بها وحدة الوطن تتمنع.. أساسها الدين لله والوطن للجميع حيث يتعايش الجميع معًا ساعين وراء الرزق تاركين أمر العقيدة والدين لصاحبه يكافئ ويجازي كيفما شاء.. نادى بها الرئيس مبارك مرارًا وأخرها في تهنئته للأقباط المسيحيين بمناسبة عيد القيامة المجيد 2009 حيث أكد أن لا أحد يستطيع المساس بوحدة الشعب الوطنية وأن الشعب القبطي مسيحييه ومسلميه يحيا تحت راية المواطنة حقوقًا وواجبات ومن قبله جسّد الزعيم مصطفى كامل هذه الحقيقة بفكره المستنير واضعًا قانون المواطنة وكان نصه "الدين لله والوطن للجميع"، وبحلول عام 1919 صك الشعب المصري عملة مواطنيه يعلو وجهها الصليب وكان الهلال على وجهها الآخر فكانت درعًا واقيًا أمام مطامع المستعمر.
وجاءت نكسة 67 السوداء طارحة راية الأمة أرضًا فقام الشعب المصري ونسج رايته من خيوط (مسلمسيحية) مشهرًا إياها سلاحًا فتاكًا عام 73 في وجه العدو طارحًا إياه بكل قوته وخطوطه المنيعة أرضا حيث تلى المشير أحمد إسماعيل وزير الدفاع وقتها آيات إنجيلية وأخرى قرآنية تحث الجنود كل حسب ديانته على الجهاد والتضحية.
هذا التاريخ المضيء قد سطر المواطنة بمداد الفكر المستنير فوق سطور حرية العقيدة الذهبية، لم تكن حرية العقيدة أساسًا للمواطنة في مصر فقط بل في كل بلدان العالم، فالفرد له مطلق الحرية فيما يعتقد وبما يدين وثمة تدخل من الحكومات في هذا الشأن يكون قهرًا يتنافى مع حقوق المواطنة.
ومن هنا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة 216 أد/ ن في 10 ديسمبر 1948 – المادة 18 الذي أعطى الفرد حرية الفكر والوجدان والدين والمعتقد وكان قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 55 / 36 في 25 نوفمبر 1981 يمنع فيه قهر الفرد على عقيدة وأيضًا يمنع التمييز بين الأفراد على أساس المعتقد والدين.
كما جاء الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان في الدورة المنعقدة لمجلس الرؤساء الأفارقة في نيروبي في 18 يونيو 1981 حيث أقرت المادة 8 حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية دون قيد على أي فرد.. كما ذخر القانون المصري بالنصوص التي تكفل للفرد حرية معتقده ودينه، ففي الدستور المصري لحماية حقوق الإنسان الباب الثاني الخاص بالحريات والحقوق والواجبات العامة نصّت المادة 40 أن المواطنين لدى القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والواجبات ولا تمييز بينهم بسبب اللغة أو الأصل أو الدين أو العقيدة أو الجنس.
كما جاءت المادة 46 من الدستور نفسه بأن الدولة تكفل حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية وبلغت استنارة الفكر المصري في المادة 47 من القانون 143 لعام 1994 فقرة 2 حيث نصّ على تغيير العقيدة دون قيود، وهكذا اجتمع العالم كله واتفقت سائر الجهات في المسكونة على حقيقة واحدة تؤكد أن حرية العقيدة هي أحد أساسات هذه القلعة وواحدة من ركائز هذا الحصن وأن التمييز بين الأفراد بسببها يرجع إلى فكر الإرهاب المظلم الذي يمزق المواطنة محطمًا القلعة والحصن ويصبح المواطن عبدًا في وطنه، فلم ينظر الشعب الأمريكي لعقيدة أوباما الدينية الذي كان مسلمًا ثم تحوّل إلى المسيحية لأن هذا أمر خاص بين الفرد وربه بل نظر إلى كونه مواطنًا يصلح رئيسًا للبلاد، كما لم يهتم أوباما بكون داليا مجاهد المصرية الأصل مسلمة ومحجبة بل إلى كونها مواطنة أمريكية تصلح مستشارة في مجلس مستشاريه.
وفي مصر ومنذ أيام مضت ألغى المستشار فتحي هلال نائب رئيس مجلس الدولة قرارًا لوزير التعليم د. حسين الجمل بإيقاف معلمات في الإسماعيلية لأنهن منقبات وجاءت حيثيات الحُكم أن قرار الوزير مخالف لمبادئ حرية العقيدة والحرية الشخصية وأضاف المستشار هلال أن قرار الوزير جاء مفتقدًا للمبرر القانوني كما أنه يدل على الانحراف بالسلطة والابتعاد عن الصالح العام وهنا انتهى ما قاله نائب رئيس مجلس الدولة.
وأيضًا أكد لنا فضيلة د. علي جمعة مفتي الديار المصرية أن حرية الاعتقاد لا سلطان عليها فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، كما أكد أن أحكام الإسلام جعلته ينتشر بالحسنة وليس بالسيف.
كل في وطنه يتمتع بمواطنته الممتزجة بحرية الدين والعقيدة ولكني أتساءل عن أحداث غريبة دخيلة على المواطنة المصرية، فشاهدنا ما حدث للأقباط البهائيين في سوهاج من ضرب وحرق وأخيرًا طُردوا من ديارهم، وما حدث لإخوتهم الأقباط المسيحيين ولا زال يحدث (بداية من الخانكة ومرورًا بالزاوية الحمراء فالكشح الأولى وبعدها الثانية ثم أحداث الإسكندرية إلى دير أبو فانا وما حدث في القليوبية) وننتقل إلى عين شمس والمنيا وغيرها من بقاع مصر حيث ضُربوا وجُرحوا وقُتلوا.. تهدمت كنائسهم وممتلكاتهم.. خُطفت بناتهم وأُجبرن على تغيير ديانتهن قهرًا.. كلها أحداث همجية بربرية دسها الإرهاب اللعين ليُعد مصر فريسة شهية على مائدة من يريد النيل منها ومن شعبها الواحد.
ومما آثار دهشتي وقلقي في الأيام القليلة الماضية ما حدث بعزبة دبوس – سمالوط في 4 أبريل 2009 حيث هوجم32 مسيحي كانوا يقيمون صلوات تبريك في منزل بنيامين عطية وكان السبب هو إقامة شعائر دينية دون تصريح.
إن مصر تقدست أرضها ببركة أديانها وشعبها المبارك المتدين، الكل يدعو الله من أجل سلامها وطمأنينتها وأمنها.. الأديان فيها تحث على التوبة والسلوك القويم وتنهي عن الخطية والجريمة فيعيش المواطن حياة آمنة كريمة... الكل يعبد الله الخالق دون إذن أو تصريح.. فهل من المعقول أن تُؤخذ موافقة المخلوق على الصلاة للخالق؟! هل من اللائق أن يُستأذن المخلوق لإقامة صلاة للخالق؟! هل مفروض على كل مَن يريد دعوة ربه ليرحمه ويحفظ بلاده أن يستصدر تصريحًا؟!
إن الإرهاب مد ألسنته المتقدة نارًا ليحرق المواطنة المصرية ليترك مصر رمادًا تدوسها أقدام الطامعين الطامحين للنيل منها.. إن التاريخ عامر حافل على مدى أيامه بسلوك المستعمر على اختلاف أجناسه منتهجًا سياسة "فرق تسد "وكان الإرهاب وسيلته والقضاء على مواطنة ووحدة الشعوب غايته ظافرًا بالبلاد بين أنيابه.. إن مصر الآن في حرب ضروس تواجه قنبلة إرهابية أبشع من قنبلة هيروشيما ونجازاكي.. هذه القنبلة موجهة لهدم أقوى أعمدة المواطنة.. حرية العقيدة.. موجهة لإيجاد التمييز بين أبناء الشعب في إقامة الشعائر ودور العبادة.. في الكيل بمكيالين بين عناصره.. في تبرئة المعتدي وإدانة المظلوم.. في قصر الوظائف القيادية على جانب دون الآخر حينئذ تنفتح الثغرات للفتك بالأمة مجتمعة بكل فئاتها ولن يملك أحد إلا الندم على انهيار حصن المواطنة.
أحبائي إن ثروة مصر الحقيقية في أبنائها الساكنين في منجم مواطنتها المرتكزة على أعمدتها الرصينة، هذه هي مصر وهذا هو فكرها المستنير وما خالفه من أفكار وتيارات إرهابية سوداء هو دخيل وغريب على شخصية مصر ومواطنتها الرصينة ومواطنيها الأوفياء.
أدعو كل مصري مثقف أن يتسلح بالفكر المستنير وأن يجاهد مدافعًا عن المواطنة في وطننا وعن مسيرته نحو الفكر المستنير... أدعو كل مصري أمين لرفض الإرهاب ونبذ كل من يريد إضرام نار التمييز بين أبناء الأمة مثل المغلول ابن النجار زغلول عندما انبرى مشوشًا كعادته في برنامج "على الهوا" مع جمال عنايت قائلاً "أن النصارى في مصر رفعوا رؤوسهم وأن الحكومة ضعيفة أمامهم ولابد أن يلزموا حدودهم ولازم يتعلموا الأدب"!! كلام غريب ودخيل على وطننا لا يخرج من بين شفتي أحد يخلص لهذا الوطن... كلام ملئ بالحقد والكراهية للوطن ومواطنيه جميعًا.. كلام من قلب سكن داخله الإرهاب وسجن وراء قضبانه المحبة والإخاء فأطاح بالمواطنة ومصيرها إلى الفناء.
أدعو كل مَن يحب هذا الوطن العظيم إلى الاحتماء يذلك الحصن المنيع وأعمدته الرصينة (المواطنة).
وقبل أن أختم لا يفوتني أن أبعث وإخواني في المهجر فائق الاحترام والتقدير إلى فخامة الرئيس محمد حسني مبارك مؤكدا لفخامته حُبنا الصادق لمصرنا في شخصه الكريم.. مؤكدًا لسيادته أن أبناءه في المهجر لم ولن ينسوا مصرهم المباركة من الله... معلنًا ولائنا لوطننا الغالي واعتزازنا بمواطنتنا فيه مهما بلغت المسافات بيننا.. مجددين الثقة في قيادته الرشيدة العادلة والتي تعطي كل ذي حق حقه.. ولا تسمح لأنياب الإرهاب اللعين أن تلتهم مواطنًا واحدًا من شعبه.. فأنت قائد مسيرتنا وحامي وطننا وداعم أعمدة المواطنة.
Atefgpm2006@yahoo.com |