بقلم: فرانسوا باسيلي
مذبحة الخنازير التي بدأتها مصر في ربيع هذا العام 2009 خلافًا لدول العالم كله تعاملاً مع خطر الأنفلونزا التي اقترنت بالخنازير، والأسلوب الذي اتبع في تنفيذ قرار الذبح بشكل أثار جماعات حقوق الحيوان في العالم وأثار اشمئزاز الجميع عند رؤيته مصورًا بالفيديو على الإنترنت وحالة الهياج التي أصابت بعض قطاعات المجتمع المصري وتحويل الأمر إلى قضية دينية تثير الاهتمام ليس في حد ذاتها باعتبارها قضية أمن وصحة عامة فقط، ولكن أيضًا لأنها تبرز بشكل واضح خاصيتين أصبحتا متلازمتين ومسببتين لمعظم أزمات المجتمع المصري ولأكثر من ثلث قرن، ويمكن تسميتهما بالسياسات العشوائية والالتهابات الدينية.
السياسات العشوائية
في تعبير السياسات العشوائية تناقض في المصطلح، إذ المفروض أن مفهوم "السياسة" نفسه يحمل نفيًا للعشوائية لأن السياسة تعني تحديد أهداف واضحة ثم وضع خطط محددة تحقق الوصول إلى هذه الأهداف، والعشوائية هي غياب الأهداف الواضحة وغياب الخطط تبعًا لذلك ولكنني استخدم هذا المصطلح لأن النظام المصري الحديث في عهديه السلطاني/ المملوكي/ الملكي ثم الجمهوري الناصري/ الساداتي/ المباركي يوهم نفسه بأنه نظام له سياسات ولديه خطط فهو نظام يطرح شكليًا كل مظاهر الدولة الحديثة من رئاسة ووزارات ومؤسسات وآليات ودساتير وقوانين ولكن واقع الأمر أن مصر لا تتحرك طبقًا لهذه كلها وإنما تتحرك بالإرادة الشخصية والعاطفة والمزاج الشخصي لمسئولين كبار وصغار، كلاً في موقع مسئوليته الشكلية أو الوهمية، فالدستور المكتوب شيء وما يجري في الواقع شيء آخر قد لا يكون له صلة به أو قد يكون مخالفا له، والقوانين المكتوبة شيء وما يتم التحرك في الشارع على أساسه شيء آخر، إذ يمكن لصاحب السلطة اختيار أن يلتزم بالقانون حين يريد أو أن يدور حوله إذا استمزج ذلك ووجد فيه مصلحته الشخصية.
والقرارات المصيرية نفسها وعلى أعلى درجات المسئولية لا تخرج عن هذا الواقع، ولنتذكر بمرارة كيف أن إجابة المشير عبد الحكيم عامر على سؤال عبد الناصر له عما إذا كان الجيش المصري مستعدا للمعركة قبل هزيمة 1967 كانت قوله: "رقبتي يا ريس!" وهي عبارة شعبية عاطفية تقال عندما تستثار نخوة الرجال ويريدون إعلان ولاءهم الشخصي واستعدادهم للتضحية، ولكن الحرب الحديثة لم تكن موضوع رقبتي يا ريس ولا قضية ولاء ونخوة وعاطفة وإنما استعدادات ومعلومات دقيقة وتدريبات مستمرة وخطط محكمة وأداء متقن وكلها لم تكن في القاموس المصري في ذلك الوقت، ولا يبدو مما نراه أنها دخلت القاموس المصري -فكرًا وفعلاً- إلى اليوم.
والواقع أن الحدث الهام الأوحد الذي قامت فيه مصر -قيادةً وجيشًا وشعبًا- بعمل دقيق التخطيط بعيد عن العشوائية والانفعالية كانت هي حرب العبور التي حقق فيها المصريون إنجازًا باهرًا بكل المقاييس ولكن بعد ذلك الإنجاز العظيم ومنذ خمسة وثلاثين عامًا عادت مصر قيادة وشعبًا إلى فطرتهم المفعمة بالتلقائية والعشوائية الفالتة والعاطفية المفرطة في مجابهتهم للحياة بشكل عام.
ولذلك كان القرار والأداء المصاحبان لمذبحة الخنازير متفقين ومنسجمين مع هذه الخاصية المصرية الحميمة خاصية العشوائية وغياب الدراسة والمعلومة الدقيقة والتفكير العلمي في مجابهة التحديات وتصريف أمور الحياة.
ولذلك رأينا دولة ومؤسسات يسوقها الانفعال وليس الاستدلال المبني على فحص علمي من قبل أجهزة ومعامل وخبراء لديهم الكفاءة والعقلية والمسئولية. وجدنا تخبطًا وتضاربًا حتى في أعداد الخنازير في مصر وفي أسلوب ذبحها وفي مقدار التعويض الذي سيدفع عن كل منها ولم نجد لجنة صحية من العلماء المختصين تدرس الأمر وتصدر توصياتها وتعقد مؤتمرًا صحفيًا لإعلان ما توصلت إليه على الملأ، رأينا صياحًا وصراخًا في مجلس الشعب ولم نر علمًا وكفاءة، سمعنا مهاترات واتهامات ولم نسمع معلومات ودراسات.
جاء كل هذا متسقًا مع ما يجري في الشارع المصري اليوم في كافة مناحي الحياة، فالعشوائيات السكنية في كل مكان داخل القاهرة وعلى أطرافها تحت سمع وبصر المسئولين والعشوائيات في وسائل المواصلات وظهور المواصلات البديلة مثل التوك توك والحافلات الطائرة التي تنقل راكبيها إلى العالم الآخر في كثير من الأحيان، مع غياب نظام محترم لسيارات الأجرة. هي كلها مظاهر لعشوائية "نظام"! المرور في مصر. وتجد الأمر نفسه في بقية القطاعات والخدمات الفاشلة التي لا تقدم للمواطن المصري الحد الأدنى من احتياجاته الآدمية، فنظام التعليم فاشل منذ عقدين على الأقل وحلّ مكانه نظام تعليم منزلي من الباطن هو الدروس الخصوصية، والنظام الطبي والصحي فاشل تمامًا ومَن يريد علاجًا لأي مرض من الأمراض الخطيرة كالقلب والمخ عليه أن يبحث عن علاج خارج مصر وهو ما يفعله كافة القادرين والمسئولين والواصلين.
أما الفساد فرائحته تزكم الأنوف وفضائحه في جرائد كل يوم، فالعشوائية القائمة على غياب النظام والقوانين واعتماد المزاج الشخصي وإدارة المؤسسات بالتليفون لا بد أن تؤدي إلى الفساد وهو المسمار الأخير في نعش المجتمع إذ أنه ينخر تدريجيًا في روح المواطن ويدفعه إلى أن يقبل أن يكون مرتشيًا أو جبانًا أو منافقًا أو متسولاً أو مجرمًا.
بل إن العشوائية والاتجال والإهمال وعدم الجدية هي مظاهر تجدها حتى في أداء أعلى القيادات الثقافية والفكرية في مصر اليوم، إذ يقول الدكتور جابر عصفور في حديث له إلى مجلة "الغاوون" المخصصة للشعر: "مكثت حوالي 15 سنة في المجلس الأعلى للثقافة "أحايل" المثقفين دون التدخل في عملهم مع أني كثيرا ما لم أرض عن قرارات اللجان بالمجلس، خصوصا جوائز الدولة التشجيعية التي لم أكن مقتنعًا بأغلب اختياراتها، فمعظم الأعمال الحاصلة على جوائز الدولة التشجيعية في الشعر والرواية "متسواش بصلة"! - انتهى حديث رئيس المجلس الأعلى للثقافة في مصر لسنوات طويلة!
وأتساءل: إذا كان أداء كبار المفكرين والمثقفين بالمجلس الأعلى (وليس الأوطى) للثقافة في مصر المانحين لجوائز الدولة (!) للنابغين "ماتسواش بصلة" فكم يا ترى يساوي أداء الموظفين العاديين البسطاء في كافة مؤسسات الدولة؟!
الالتهابات الدينية
الكارثة الأخرى التي تهدد مصر -والتي ظهر جانب منها أيضًا في مذبحة الخنازير- هي كارثة الالتهاب الديني الذي أصبح التهابًا مزمنًا في مصر منذ بداية السبعينات، وقد أدى الترهل والتراخي الذي يتسم به النظام في مصر في تصديه لهذا الالتهاب إلى تحوله إلى سرطان يستشري في أنحاء جسد مصر مقتربًا من روحها نفسها.
فالنظام ليس لديه حل لهذه الكارثة –كارثة تحول الإسلام المصري الوسطي المعتدل إلى إسلام سلفي وهابي مدعوم بالمال السعودي– سوى الحل الأمني وحده وهو حل ليس كافيًا ولا ملائمًا، فالحل يجب أن يكون اجتماعيًا ثقافيًا اقتصاديًا تعليميًا متكاملاً، وليس الجانب الأمني سوى الجانب قصير الأمد قصير النظر في هذه المنظومة.
ولكن النظام المصري المترهل المتراخي -بدلاً من مواجهة الرجعية الدينية التي غزت مصر واستشرت في أنحائها ببرنامج متكامل في كافة المناحي- نراه يزايد على الرجعية الدينية نفسها ويحاول أن ينافسها، ولا يقف بوضوح وحسم وقوة إلى جانب المجتمع المدني العصري المتطور المتحضر وإنما يحاول الرقص على السلم فلا هو نظام سلفي ديني تمامًا ولا هو مدني عصري تمامًا، هو نظام بهلواني يلعب مع هؤلاء ساعة، ومع هؤلاء ساعة، ساعة لقلبك وساعة لربك كما يقول المثل الشعبي المصري!
وهكذا نجد البهلوانية السياسية هي المرجعية التي يستند إليها الجميع في مجابهة إشكالية الالتهاب الديني المزمن الحالي.
إن النظام يقف متفرجًا على هزليات وكوميديات "الحسبة" التي يقوم فيها شيخ الحسبة يوسف البدري برفع قضايا حسبة ضد رموز مصر الثقافية فتصدر أحكام ضدهم، وهكذا وجدنا حكمًا يصدر مؤخرًا بتغريم الدكتور "جابر عصفور" الذي تربع على أعلى مجلس ثقافي مصري لخمسة عشر عامًا بمبلغ 50 ألف جنيه، ويأتي ذلك بعد حكم مماثل في العام الماضي ضد الشاعر والمفكر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي الذي اضطره إلى بيع أثاث شقته في الإسكندرية! وهو نفس حكم الحسبة الذي كان سببًا في تفريق د. نصر حامد أبو زيد عن زوجته مما اضطره إلى ترك البلاد واللجوء إلى الغرب.
وصدرت أحكام حسبة أخرى ضد جمال الغيطاني ومحمد سعيد وغيرهم، والنظام الذي يسيطر حزبه على مجلس الشعب والشورى يقف متفرجًا ومزايدًا على هذا الوضع الذي يشوّه ليس فقط صورة مصر في الخارج بل روحها في الداخل أيضًا.
والنظام قادر أن يقوم نوابه بتغيير هذه القوانين الغريبة التي تمنح أي فرد الحق في مقاضاة المثقفين المصريين في أمور فكرية يجب أن تكون في حماية القانون.
ويقف النظام متفرجًا أمام تصاعد الالتهاب الديني فأصبحت الموضوعات الدينية تقتحم كل مناحي الحياة بشكل فج، حتى أن أحد أشهر الدعاة اليوم، وهو الشيخ خالد الجندي قال في برنامج البيت بيتك أن الكيل قد طفح من هؤلاء الذين يقحمون الآيات القرآنية في كل شيء وفي كل مكان، وقال إنه حين يدخل إلى مصعد، يجد آيات قرآنية مكتوبة أو مسموعة تتحدث عن الصعود والهبوط، وقال مستهجنًا: هذا أمر لا يجوز، وماذا عن إخوتنا في الوطن من الأقباط؟! أما الحكومة فلا تقول شيئًا عن هذا.
وفي مذبحة الخنازير راح بعض الإخوانيين من الجماعة المحظورة (!) يحاول تحويل الأمر إلى قضية دينية، باعتبار أن معظم العاملين في تربية الخنازير هم من الأقباط وراحت بعض مواقع الإنترنت الإسلامية تضع صورة الخنازير على صور الكنائس.
إن النظام المصري المترهل عاجز عن خلق مجتمع وطني موحد يمكنه التصدي للانفصام الطائفي والتدهور الحضاري .
إن تكالب السياسات العشوائية وما تنتجه من تخبط وفوضى وفساد من جهة مع الالتهابات الدينية وما تنتجه من هوس ومضاعة للوقت في القشور من المظاهر الدينية على حساب العمل الجاد والفكر العلمي والتقدم الحضاري من جهة أخرى، هما معًا المسئولان مسؤولية مباشرة عن التدهور الهائل الذي تعيشه مصر اليوم، والنظام قد فشل في التصدي للظاهرتين معًا بل هو يعمل على تكريسهما كل يوم. |