بقلم: د.ناجي فوزي
للوهلة الأولى قد يبدو للقارىء أن هناك نوعاً من التلاعب بالألفاظ بين عبارتي "ثقافة التغيير" و"تغيير الثقافة", ولكن الحقيقة أن الأمر يخلو من أية محاولة للتلاعب من هذا القبيل؛ ذلك أن العبارة الأولى (ثقافة التغيير) تستند إلى مسألة "التصنيف", بينما تتعلق العبارة الثانية (تغيير الثقافة) بتحديد "الحالة", وبين الإثنين علاقات وطيدة تصل – أحياناً – إلى حد التلازم.
فإذا بحثنا في " ثقافة التغيير" سنجد أن هناك أصنافاً من الثقافة من الممكن أن تندرج تحت أنواع لا حصر لها, فهناك "الثقافة السائدة" و"ثقافة المواطنة " و"الثقافة التدين" و"ثقافة التمييز العنصري" و"الثقافة الذكورية".. إلخ .
و"ثقافة التغيير" تعني, من وجهة نظرنا, وجود "وسائط معرفية" من شأنها أن تقوم بتحويل أو تساعد على التحويل الإنسان أو المجتمع من حالة إلى حالة أخرى, سواء كانت إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية أو أخلاقية….إلخ.
فعلى سيبل المثال عندما أراد قادة الثورة البلشفية/الشيوعية في "روسيا" عام 1917 أن يروجوا لقيام الدولة الشيوعية التي تستند إلى النظرية الماركسية, ومن بعدها الماركسية اللينينية, بدأ هؤلاء الثوار يجندون كل الوسائط المعرفية مجندة من أجل هذا التغيير الجذري حتى إن جانباً كبيراً جداً من تاريخ الفن السينمائي في "روسيا" ولأن المجتمع الروسي ذاته كانت لديه دوافع إقتصادية/إجتماعية ودوافع سياسية لقبوع هذه الإجراءات (على الرغم من كل وسائل القسر والإجبار والقمع الذي يصل لمثل ثقافة التغيير هذه وفعلها الواضح في هذا المجتمع الذي كان يتحول إلى "الشيوعية" بكل وضوح.
وفي المقابل, ومع نهاية عقد السيعينيات وخلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين, بدأت تهب رياح التغير على المجتمع الروسي (داخل الإتحاد السوفيتي) وبدا أن هناك إستعداداً لهذا التغيير من نظام الحكم السياسي الشمولي ومن الإقتصاد المملوك بكامله للدولة إلى نظام الحكم الديمقراطي والإنتفاع على الإقتصاد الحر.
فإن لم يكن المجتمع الروسي (ويماثله في ذلك مجتمعات دول شرق أوروبا التي كانت تنتهج الشيوعية مذهبأ سياسياً) مستعداً للتغيير من خلال منظومة ثقافية يستخدم وسائطها المعرفية لقبول هذا التغيير بصفة مبدئية ثم لممارسته لاحقاً, لما كان لأي مجتمع أن يتحول من حالة إلى حالة أخرى مختلفة عنها بل متمايزة إلى حد كبير.
ومن جهة أخرى, فإن "تغيير الثقافة", بإعتباره مصطلحاً يتعلق بتحديد "الحالة", فإنه يعنى إحلال نوع من الثقافة محل أخرى, إحلالاً كاملاً أو شبه كامل.
والمثال الواضح لدينا (هنا في وطننا المصري) هو ما حدث في المجتمع المصري بدءاًَ من عقد السبعينيات في القرن العشرين حيث تعرض هذا المجتمع لنوع من الإحلال "شبه القسري" لثقافة "التدين" محل ثقافة "المواطنة".
والحقيقة أن هذا الإحلال الثقافي بالتحديد كانت بوادره قد بدأت مع إستتباب حركة التغيير السياسي التي قام بها نفر من الجيش المصري عام 1952, خاصة مع إتجاه نظام الحكم الناصري لتغييب كيان الوطن المصري في الفكرة ذات "الطابع الهلامي" عن القومية العربية, وبالأكثر مع تغيير إسم الوطن من "مصر" إلى "الجمهورية العربية المتحدة- الإقليم الجنوبي", لتصبح "مصر" مجرد إقليم داخل دولة "مائعة الطابع", ذات كيان تركيبي غامض, يستند إلى فكرة القومية العربية التي تقوم على عدة عناصر يأتي في مقدمتها وعلى رأسها كل من الدين (وهو هنا الإسلام) واللغة (وهي هنا العربية) ليتضح لاحقاً أن الدين هو العامل المشترك الأول تأثيراً, لينمو هذا التاًثير نمواً سرطانياً ويصبح هو بذاته محتوى ما يعرف بإسم القومية العربية.
فإذا كان "المشروع الناصري" لم يكتمل من خلال "القومية العربية", ليس لإحتوائه على جرثومة فنائه التي هي "هلامية" المصطلح ذاته, ففي المقابل فإن "المشروع الساداتي", القائم على إستغلال "طابع التدين" الذي يتسم به معظم المصريين, ويتتحول إلى سياسة متعمدة لتديين المجتمع, ومن ثم إضفاء الطابع الديني على الدولة.
هذا المشروع ينجح إلى حد كبير حتى بعد موت صاحبه حيث سمح النظام السياسي القائم في مصر منذ مطلع السبعينيات بإحلال "ثقافة التديين", المنطلقة بكل قوة في هذا التاريخ, محل ثقافة "المواطنة" التي بدأت في مع أوائل الخمسينيات من القرن العشرين.
ومع أن هذا الإحلال الثقافي قد لا يظهر طابعه القسري بوضوح حتى أن البعض قد يتخيله إحلالأ ناعماً, إلا أن الحقيقة تشير إلى أن وسائله كانت دالة على هذا الطابع القسري المتسلل وذلك بإطلاق يد الجماعات الدينية الإسلامية في المجتمع المصري من جهة, وبتعظيم دور المؤسسة الدينية المسيحية في مصر لتصبح بمثابة المتحدث الرسمي بإسم المسيحيين من جهة أخرى ذلك أن "عملة" التديين في مصر لها وجهان: الإسلامي والمسيحي.
والمعضلة التي أصبحت تواجه المواطن المصري في الوقت الراهن هي أن العودة إلى "ثقافة المواطنة" لا يمكن أن تتحقق من خلال فكرة "تغيير الثقافة", بل ان الوسيلة المتاحة لذلك هي نفس الوسيلة التي إتبعتها النحبة الوطنية المصرية بدءاًَ من ثورة عام 1919, وهي اللجوء إلى "ثقافة التغيير", أي الأخذ بين المجتمع كان يتمثل في مسألة "الإستقلال التام عن الإحتلال البريطاني" في ذلك الوقت, وذلك من خلال الوسائط المعرفية المتاحة في ذلك الوقت وهي الخطابة بالدرجة الأولى ثم الصحافة والمظاهرات السياسية التي تحولت إلى ثورة شعبية شاملة فيما بعد.
وكان مناط التغيير الذي كان يستلزم وجود مجتمع يتحلى بإمكانية قبوله أي يستلزم وجود "ثقافة التغيير", يقوم على محوريين أساسيتين, أولهما هو تأكيد فكرة "المواطنة" وفصلها عن الدين على وجه التحديد, وصولاً للدولة المدنية وتأسيسلها, فكان شعارها الذي يتقدمها هو أن "الدين لله والوطن للجميع" وأن "مصر للمصريين".
والمسألة الأخرى هي التأكيد على ضرورة قيام نظام سياسي مصري مستقل, يستند إلى النظام الديموقراطي في الحكم, من خلال وضع الدستور الدائم للدولة المستقلة في عام 1923.
فإذا كان المصريون قد مارسوا "ثقافة التغيير", بدءاًَ من عام 1919, وهم تحت الإحتلال العسكري البريطاني, فضلاًَ عن الشعبية السياسية الصورية (أو الظاهرة أو الشرفية ) للدولة العثمانية, بينما كانت وسائطهم المعرفية تنحصر في الخطابة والمظاهرات الشعبية وإلى حد ما في الصحافة (لقلة إنتشارها من جهة ولقلة قرائها من جهة أخرى), فهل لا يستطيع هؤلاء المصريون أنفسهم إعادة ممارسة هذه الثقافة مرة أخرى, في ظل وسائط معرفية أكثر عدداً واكثر تقدماً واكثر إنتشاراًَ (الصحافة – النشر – شبكة الإتصالات الدولية العنكبوتية – الإنترنت – الإذاعة – التليفزيون – السينما -أنشطة المجتمع المدني – سياسة الدولة ذاتها) .
لقد أستطاع الأمريكيون, في الولايات المتحدة الأمريكية, أن يمارسوا "ثقافة التغيير" التي كان من شأنها أن تتيح للمجتمع الأمريكي أن ينتقل من ثقافة "التمييز العنصري" الصارخ (إلى حد الفصل العنصري في جميع مظاهر الحياة بما في ذلك المساكن ووسائل النقل العام والمطاعم والمدارس أو دور العلم والصلاة في الكنائس أيضاًَ بل الموت, من خلال مقابر للبيض منذ صلة عن مقابر السود من أصل إفريقي.
وبسبب ضيق المساحة فإننا نكتفي بالإشارة إلى وسيط معرفي واحد قام "المجتمع الأمريكي العام" بتجنيده للمشاركة في تحقيق "ثقافة التغيير", بغرض الإنتقال من التمييز العنصري إلى المواطنة الكاملة لكل الأمريكيين, إلى حد إنتخاب الرئيس الأمريكي الرابع والأربعين من أصل افريقي أسود, وهذا (الوسيط المعرفي هو الفن السينمائي الأمريكي", فمن خلال إنتاج السينما الأمريكية الذى يتعدى الثلاثمائة فيلماًًَ روائياً طويلاًَ في العام الواحد عادة فإن هذا الإنتاج بدأ يحتوى تدريجياً على أفلام تعالج مشاكل الأمريكيين السود, وتناول شخصياتهم بصورة إيجابية, خاصة تلك الأفلام التي تشيد إلى أن الأمريكى الأسود هو مواطن من الدرجة الأولى, وأن لونه لا يميزه إلا من الناحية البصرية الفيزئقية فحسب فضلآ عن عدد غير منتهي من الأفلام التي تتناول قضايا التمييز العنصري بصفة مباشرة.
فإذا حاولنا أن نتابع الموقف في وطننا المصري سنجد أننا بحاجة فعلية لغرس ثقافة التغيير حتى يقبل المصريون (أغلبهم على الأقل) بفكرة المواطنة من جديد.
وأن الدين ليس هو الوطن الحقيقي للإنسان بما يقتضيه ذلك من مراجعة عدد من الأمور التي يحاول الكثير من الناس إقحامه فيها.
فضلآ عن تدخل الكثير من الظروف, من أجل الإيحاء بأنها أمر واقع, ولعل في مقدمتها فكرة التمييز الديني التي تغلغلت بشدة في وجدان المصريين في العقود الثلاثة الأخيرة ولكن كما سبق وأوضحنا فإنه بدون تجنيد الوسائط المعرفية من أجل "ثقافة التغيير" فلا وجود لمثل هذه الثقافة ومن ثم فلا مجال للحديث عن "تغيير الثقافة" من باب أولى . |