CET 09:32:22 - 26/05/2009

مقالات مختارة

بقلم : محمد بركة

ترك أعماله في العاصمة وذهب الي قريته ليودع والدته التي تحقق حلمها أخيرا ستؤدي العمرة‏..‏

أول ما لاحظه أن توديع الحجاج في القرية لم يعد يتم من خلال الزيارات المنزلية واعادة طلاء المنازل مع كتابة عبارات مثل حج مبرور‏..‏ وذنب مغفور وربما رسم سفينة او طائرة‏,‏ أصبح التقليد الجديد تجميع الحجاج في مكان يتوسط القرية‏,‏ ثم يتوافد الأهل والأقارب للتهنئة وسط صوان قبل انطلاق الباص بالحجاج الي المواني والمطارات‏!‏

استشعر شيئا من الطمأنينة بسبب المستوي الفاخر لكل باص‏,‏ ولمح في عين والدته دمعة فرح فرت هاربة‏.‏

لكن ما حدث كان خارج العقل وفوق الخيال‏!‏
غابة متصارعة من الأيدي والأذرع والسيقان‏.‏ كوكتيل من الوجوه المستنفرة الغارقة في العرق والتربص البدائي وقد ارتفع بداخلها منسوب الدفاع عن النفس الي أعلي مستوياته‏!‏ الزعيق والشتائم المتبادلة يصم الآذان‏!‏ كل ذلك لأن كل حاج او حاجة جاءت مع عزوتها وأهلها وناسها الي الحفلة باعتبارها نقطة التجمع‏,‏ ومن بين الأهل والناس يتقدم من خيرة شباب العائلة‏3‏ أو‏4‏ ليدخلوها الباص قبل غيرها‏!‏

يحدث هذا بعنف وحشي‏..‏ واستنفار بدائي وكأننا امام طابور يتصارع امام فرن خبز في زمن المجاعة‏..‏ غاب المنطق والعقل‏,‏ ونسي الجميع أن كل مسافر له مكانه ومقعده‏,‏ وهنا عرف لأول مرة معني كلمة التدافع وكيف يلقي العشرات حتفهم اثناء أداء المناسك‏..‏ والدته سيدة طيبة‏,‏ تقترب سريعا من الخامسة والستين‏,‏ لكنها مثل كل أم ريفية أفنت حياتها في خدمة بيتها وأولادها وزوجها وأهل زوجها تبدو أكبر من سنها بعشر سنوات علي الأقل‏.‏

هذه السيدة الطيبة آفاق علي صوتها‏..‏ لا ليس صوتها‏..‏ بل صراخها‏,‏ صرخة أطلقتها بعد أن عز الأوكسجين وانهكها التدافع وهو يحاول بلا جدوي انقاذها من الغابة البشرية وبالكاد سمع صوتها الواهن المحتج‏:‏ يا حظي يا حظي‏..‏ مش عايزة أسافر‏!‏ مش عايزة أسافر‏!‏ هنا جن جنونه‏,‏ تحول هو الآخر الي شيء آخر لايمت بصلة للانسانية‏,‏ شيء أشبه بحيوان جريح يريد أن يحمي فردا عزيزا من أفراد مجموعته‏,‏ وبعد ساعة ونصف الساعة كان جسده منقوعا بالعرق‏..‏ قميصه ممزقا‏..‏ شعره هائشا تماما‏,‏ وخيوط حادة رفيعة حمراء ترتسم علي رقبته‏..‏ كان جالسا علي الأرض يلهث‏..‏ وهو يشاهد ست الحبايب تشير اليه من وراء الزجاج وقد تحرك الباص الأول وتبعه الثاني في أولي خطواتهما باتجاه لقاء رباني ينتظره بكل أشواق العمر مسافرون يرفلون في ثياب بيضاء ويركبون باصا فاخرا تعلوه راية بيضاء‏!‏
‏barakaw@hotmail.com
*نقلاً عن جريدة الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع