بقلم: نبيل شرف الدين
فى حقبة ما بعد ١١ سبتمبر ٢٠٠١، لم يعد العربى المسلم ذلك المخلوق العصابى المتخم بأموال وفرتها مصادفة جيولوجية، لا يعرف كيف ينفقها سوى بإلقائها على أجساد العاهرات وموائد القمار، لكن الصورة ذهبت للأسوأ من ذلك، فهو المتعايش مع آخر بؤر الاستبداد فى العالم، والذى يتلذذ بالتمييز ضد النساء ويضطهد الأقليات، ولا يكف عن التغنى بأمجاد الماضى، بل يحلم بإعادة عقارب الزمن لـ«خير القرون»، ويعادى الحضارة والحداثة، وهذه الصورة النمطية ساهمت بالطبع فى ترسيخها سلوكيات المنظمات الإرهابية، بتحالفها غير المكتوب مع منظومات الاستبداد والفساد، فيما يشبه توزيع الأدوار.
وبرصد ما يجرى فى المجتمع المصرى باعتباره «خميرة حضارية» تتأثر بها جميع دول المنطقة، سنكتشف ببساطة أن الدولة نجحت أمنياً فى بسط نفوذها، ودحر جماعات الإرهاب المتأسلمة، لكنها أيضاً منيت بهزيمة كاسحة على الصعيد السياسى، إذ شاعت لغة التطرف الدينى، واكتسح السلوك المتشنج ليضرب حتى النخب التى طالما لعبت دوراً طليعياً فى قيادة المجتمع،
فمثلا ما إن ترفع سماعة الهاتف لتجد من يباغتك بطريقة مسرحية: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ولا اعتراض على استخدام ما شئت من عبارات السلام، لكن لعلنى مخطئ حين أشم فى هذا السلوك رائحة الادعاء، الذى امتد ليشمل جميع مظاهر الحياة، فأصبحت قضيتنا الفكرية الملحة الآن، هى الدعوة للاكتفاء بالحجاب بدل النقاب، وصرنا نتباهى بالزبيبة كأنها عنوان على التقوى، واتسعت مساحة البرامج الدينية فى وسائل الإعلام، كل هذا دون أدنى مردود أخلاقى على سلوك البشر،
وهذا وضع يوحى بأن السلطة تدعم التطرف، وإلا فما معنى ظاهرة زغلول النجار الذى هبط على كبرى الصحف لتفرد له صفحات يسودها بحديث تحريضى سمج، وما معنى إفساح الساحة لعشرات الغلمان وتقديمهم لخلق الله باعتبارهم «دعاة جدد»، وكل مؤهلات هؤلاء أنهم كانوا يتعاطون المخدرات ثم توقفوا، وبتعبير أدق غيروا نوع المخدر، وكأن هذا يمنحهم الحق فى أن يعظوا الناس حتى لو كان ذلك بلغة سوقية مبتذلة، تتدنى بلغة الخطاب الدينى، وتشوه صورة الفقيه والداعية.
إذن يبدو والله أعلم أن أنظمة المنطقة بدرجات متفاوتة تدعم هذه الذائقة المتطرفة لدى العوام، مع أن الأنظمة حاربت الإرهابيين بالفعل، لأنهم هددوا وجودها، غير أنها لم تحارب التطرف، بل على العكس غذته، واستغلته فزاعة ترهب بها المجتمع الدولى، متذرعة بأنه «رأى عام» ينبغى احترامه وخصوصية يجب أن تبقى هذه الأنظمة للتعامل معها، باعتبارها صاحبة خبرات مع هذه الشعوب «الضالة»، التى لا تناسبها الديمقراطية، لأنها ستنتخب بن لادن لو قدر لها أن تخوض انتخابات حرة نزيهة.
باختصار تستخدم الآن أنظمة الحكم فى المنطقة التطرف الشعبوى، وتتخذ الشعوب «دروعاً بشرية» للوقوف بوجه أى باب أو نافذة يمكن أن تهب منها ريح التغيير والإصلاح، وراح منظرو الاستبداد يتحدثون عن التغيير الذى ينبع من الداخل، وهى كلمة باطل يراد بها باطل، فلم نسمع طيلة التاريخ عن شخص أو جماعة أو أمة أغلقت دونها كل المنافذ، وقاطعت الشرق والغرب ترقباً للتغيير الذى ينبع من الداخل، بينما هذا الداخل منكفئ وراء قوت يومه، خائف مرتعد من أن تنكل به السلطة أو تضيق عليه عيشه.
سمة أخرى راحت تتعاظم تمثلها تلك الموجة العارمة من «الردح والشرشحة»، حتى تحولت لظاهرة تضرب الساحة السياسية والثقافية المصرية ـ كنموذج لما يجرى فى المنطقة ـ وتفشى هذا السلوك فأصبح المواطن العادى الذى لا صلة له بالجماعات ولا المنظمات يتبنى آراء بن لادن، ويفسر كل ما يجرى هنا وهناك بذهنية تآمرية،
فالأمريكان والأوروبيون والروس والمجوس والهندوس يتآمرون علينا، ويريدون هدم ديننا، بل يصل الأمر لحد التبجح وخلع «برقع الحيا»، حين يتصدر إحدى الصحف عنوان فاقع عن «إلغاء القرآن الكريم»، ولا أفهم كيف يمكن لكائن من كان أن يلغيه؟.
ولعلى لا أحمل الأمور أكثر مما تحتمل، حين أرى رابطاً بين ظاهرة الردح، وتغذية المزاج المتطرف، فالجميع متشنجون لأن كلاً منهم يتصور نفسه ملهماً يمتلك ناصية الحقيقة، ولا يأتيه الباطل من أى صوب، وبالتالى فإن أى محاولة لمناقشته تشكل مساساً بذاته المتورمة،
أما الاختلاف معه فيعنى ببساطة «إعلان حرب»، هذه الذهنية هى نتاج البيئة السياسية والثقافية المحتقنة فى بلادنا، والتى تغيب عنها المسؤولية وفكرة الثواب والعقاب وروح القانون، والغريب أنه كلما تزداد سخونة الحوار تتهم الصحافة بإشعال الفتنة، كأنها هى التى تصنع الأحداث، ولا يقتصر دورها على نقلها والتعليق عليها. |