ثمة تغير ملحوظ في موازين على رقعة الشطرنج الديني في مصر، فخلال 18 يومًا فقط هي عمر ثورة المصريين ضد نظام مبارك تراجعت قوى دينية إلى الصفوف الخلفية فيما تقدمت أخرى وخرج البعض من السباق نسبيًّا، بفعل نتائج الثورة وموقفها منها طوال مراحلها المختلفة. وبحسب خبراء للأزمة فإن القوى الدينية الرسمية أصيبت بكثير من الوهن لمراهنتها على النظام السابق والوقوف ضد الثورة، ومن بين تلك القوى الكنيسة القبطية المصرية، حيث أعلن البابا شنودة مستبقًا الأحداث قبيل 25 يناير مساندته للرئيس السابق حسني مبارك، ودعا الأقباط إلى قداس استثنائي ليضمن عدم مشاركتهم في المظاهرات، ومع اشتعال الأحداث وزيادة عدد الضحايا،
لم يغير موقفه بل اتصل بالرئيس السابق مطمئنًا ومساندًا، وبعد إعلان التنحِّي حافظت الكنيسة على شيء من المرونة بإعلانها أن أرواح شهداء الثورة ماجدة، واصفة الثورة بأنها "ثورة قوية وبيضاء بذلوا في سبيلها دماء غالية".
موقف الكنيسة الداعم للنظام السابق صادف تمردًا واضحًا من قطاع قبطي يتعدَّى حدود العلمانيين الأقباط حيث شارك شباب مسيحي في مظاهرات الثورة وعزَّز تمردهم الأنباء المتواترة عن تورط وزير الداخلية السابق حبيب العادلي في تفجير القديسين، وخلو أيام الثورة من توترات طائفية إضافة إلى الدور الشعبي في حماية الكنائس.
انضم لموقف المتمردين على قرار البابا بعض النشطاء ومنهم مايكل منير رئيس منظمة أقباط الولايات المتحدة الذي أعلن من ميدان التحرير أن الديمقراطية وحدها كفيلة بحل الأزمات الطائفية.
فيما وقع الناشط القبطي نجيب جبرائيل على بيان يرفض مظاهرات 25 يناير، وبعد نجاح الثورة طالب جبرائيل بدور في الحوار مع النائب السابق لرئيس الجمهورية عمر سليمان.
الكنيسة الكاثوليكية اتخذت موقفًا شبيهًا بنظيرتها الأرثوذكسية فيما كسب الإنجيليون نقاطًا هامة عقب إقامتهم لأكثر من قداس داخل ميدان التحرير.
على الجانب الإسلامي كان من بين الخاسرين ممثلو الأزهر ودار الإفتاء، حيث اتسم خطاب الدكتور أحمد الطيب حول الثورة بكثير من الانحياز للنظام الرسمي، واصفًا إياها في البداية بأنها مؤامرة أجنبية قبيل أن يتبنى خطابًا يندِّد بتعطيل الأعمال والمضي في التخريب، وهو الأمر نفسه الذي تبناه الدكتور علي جمعة، الذي شن هجومًا حادًّا على الشيخ القرضاوي لتأييده الثورة، وقال عنه إنه يجلس بجانب الجزيرة ولا يدري شيئًا عن مصر، وبعد تنحِّي الرئيس مدحا معًا الثورة وطالبا بانتقال سلمي للسلطة وضرورة اختيار شيخ الأزهر بالانتخاب مع وجوب أن تحكم مصر بنظام مدني ديمقراطي.
ووصف جمعة ثورة الشاب بالمباركة، داعيًا إلى نبذ الأحقاد والبدء في البناء.
ومن بين الخاسرين أيضًا في رقعة الشطرنج الديني السلفيين، فراهن قطاع عريض منهم على نظام مبارك، وقبيل اندلاع الثورة خرجت فتوى من جمعية أنصار السنة بدمنهور تحلل دم البرادعي والقرضاوي، وتدعم مبارك باعتباره ولي الأمر، وأثناء الأيام الثمانية عشر الحاسمة للثورة ساهم بعضهم في محاربتها فأفتى الشيخ يوسف البدري بأن من يخرج في مظاهرات فيحكم من يلقي بنفسه للتهلكة، وساد الصمت بقية المشايخ، إلى أن تحدث محمد حسان داعيًا لحقن الدماء، وناشد الرئيس السابق الرحيل لهذا السبب، لكن بعد نجاح الثورة نظم بعض مشايخ السلفية منهم حازم شومان ومحمد حسان عدة فعاليات من بينها مؤتمر بمدينة المنصورة يوم 12 فبراير الماضي للدعوة لإقامة دولة إسلامية في مصر، إضافة إلى مظاهرة أخرى للغرض ذاته في شارع الهرم، لكن الطابع المدني للثورة ورفعها شعار "مدنية" قلَّل من تأثير دعوتهم وزاد من خسارتهم.
وبحسب محللين فإن الجماعة الإسلامية وهي محسوبة على التيار السلفي الجهادي قبيل تخليها عن العنف عزَّزت من مكاسبها فجمعت كوادرها واجتمعت علانية في أسيوط بعد ما يقرب من عقد من منع لقاءاتها، وتجرأت للمرة الأولى منذ مبادرة وقف العنف في توجيه انتقادات علنية للرئيس مبارك باعتباره أحال 100 من كوادرها لمحاكم عسكرية حكمت بالإعدام عليهم في عقد التسعينيات ولم يعف عن أي منهم، لكن موقفها المساند لمبارك خلال العقد الأخير، وتاريخها المغرق في العنف حال دون تحقيقها مكاسب في الشارع.
واختفت تقريبًا من المشهد الكتلة الصوفية التي عانت من انشقاقات خلال الفترة الأخيرة خاصة الصراع بين أبو العزايم والقصبي إضافة إلى طبيعة الصوفية المساندة لأي سلطة في مصر.
على مستوى الدعاة الجدد يقول محللون إن عمرو خالد حقق نقاطًا إيجابية عديدة سواء بإعلان موقفه الداعم للثورة في أسبوعها الأول، بعد خسارته للعديد من أنصاره عقب أزمة محاضرته السكندرية التي أقيمت على هامش مؤتمر انتخابي لمرشح الحزب الحاكم محمد عبد السلام المحجوب، استعرض خالد قوته بدعوته خمسين ألفًا من شباب "صناع الحياة" لحماية المنشآت العامة، ثم ظهوره في اليوم الأخير كداعية لبناء مصر من جديد، في حين خسر خالد الجندي كثيرًا بموقفه المساند للنظام القديم ودعوته شباب التحرير للعودة إلى بيوتهم قبيل تنحي مبارك.
ويقول محللون للأزمة إن الكتلة الدينية الفائزة بأكبر قطعة من الكعكة بعد الثورة كانت كتلة الإخوان المسلمين، فقبيل مظاهرات الخامس والعشرين من يناير أعلن الإخوان أن نزول أي من أعضاء الجماعة للمشاركة سيكون بشكل فردي ليتجنبوا تحمل مسؤولية الثورة في حالة قمعها، وبعد اشتداد المواجهات أعلنت الجماعة موقفها الداعم للثورة قبيل جمعة الغضب، وكان للإعلان أكثر من سبب بحسب خبراء منها تحميل السلطة القائمة مسؤولية الاحتجاجات للجماعة ومن هنا سيواجهون مصيرهم حتمًا ولا بديل عن الرجوع، وخلال أيام الثورة غير المليونية ساهموا بالحشد العددي حتى يشعر المراقبون بخفوت المظاهرات، وتمكنت الجماعة من انتزاع الشرعية بقبولها دعوة الحوار مع نائب رئيس الجمهورية السابق عمر سليمان، وبعد نجاح الثورة تعددت نجاحات الجماعة ومكاسبها، فهي القوة الوحيدة المنظمة حاليًا في الشارع السياسي وتأكدت شرعيتها واخترقت حصون الصحافة القومية للدرجة التي أعلنت لها عن مظاهرة سلمية للإفراج عن المعتقلين، كما صرحت الجماعة عن قرب تدشين حزب تابع لها، واختير عضو منها وهو صبحي صالح في لجنة تعديل الدستور، وانضم أعضاء منها إلى العديد من الحركات والائتلافات النابعة من الثورة كمجلس أمناء الثورة ومن بينهم محمد البلتاجي، والشيخ المحسوب فكريًّا فقط عليها صفوت حجازي.
أما ما يعرف بتيار الإسلاميين المستقلين ومنهم الدكتور محمد سليم العوا والمستشار طارق البشري والكاتب فهمي هويدي والدكتور أحمد كمال أبو المجد فاعتلوا صدارة المشهد الثوري، سواء باشتراك أبو المجد في مفاوضات عمر سليمان أو رئاسة البشري للجنة تعديل الدستور، فيما ساهم العوا بدور هام في التعبئة للثوار، وبالمثل هويدي.
للمزيد الثورة تعيد تشكيل خارطة المؤسسات الدينية في مصر: هزّة تضرب الأزهر والكنيسة.. والسلفيون الخاسر الأكبر، والإخوان والمستقلون للصدارة |