CET 00:00:00 - 08/03/2009

مساحة رأي

بقلم/فرانسو باسيلي
فى مصر مثل شعبى يقول: "اللى يعيش ياما يشوف" والواقع انه يمكن تكملة هذه الجملة بشطر آخر يقول: "واللى يعيش فى مصر يشوف اكثر" فالعجائب
لاينتهى حدوثها فى مصر وعجائب مصر لاتضاهيها عجائب اى بلد آخر فى العالم، حتى ان هناك سلسلة متداولة على الانترنت بالبريد الالكترونى عنوانها "فى مصر وحدها – Only in Egypt" وبها صور فتوغرافية لعجائب الواقع المصرى ومفارقاته المدهشة فى كل مظاهر الحياة اليومية للمصريين فمصر ليست فقط هى ام الدنيا وانما هى ايضا ام العجائب!
واحدث هذه العجائب هو الافراج المفاجئ عن ايمن نور مؤسس حزب الغد بشكل اثار دهشة الجميع بمن فيهم ايمن نور نفسه وعائلته وجاء الافراج بعد يومين من نشر مقال فى جريدة الواشنطن بوست يقول ان البعض فى واشنطن يربط بين موافقة الرئيس اوباما على استقبال الرئيس المصرى مبارك فى البيت الابيض وبين اطلاق سراح المعارض السياسى المصرى الذى كان ترتيبه الثانى بعد مبارك فى الانتخابات الرئاسية الاخيرة. ليساق بعدها الى السجن بتهمة يرى الكثيرون انها سياسية وليست جنائية كما ذكر مقال ظهر فى نيويورك تايمز فى اليوم التالى لخروج نور من سجنه المظلم.
وقد جاء الافراج بشكل عجيب حتى ان المذيعة التلفزيونية الشهيرة منى الشاذلى مقدمة احد اهم البرامج اليومية فى مصر اليوم وهو "العاشرة مساءً" اخذت تسأل ايمن نور الجالس امامها فى الاستوديو بعد ساعات قليلة من الافراج وهى مندهشة:
-هل ابلغك احد منذ يوم او اثنين بقرب خروجك؟
-لا. لم اعرف سوى لحظتها.
-الم يفاوضك احد على اى شئ؟
-ابدا لامفاوضات ولامعلومات مسبقة
- هل قالوا لك من الذى امر بالافراج عنك؟
- لا لم يقولوا اى شئ
- هل رأيت اى ورقة رسمية بالافراج عنك؟ هل وقعت على اى شئ؟
- لا لاشئ
- كيف خرجت اذن؟
- جاءنى احد ضباط السجن وقال تعالى معنا واخذونى فى سيارة.
- الم تسأل: الى اين ستأخذونى؟
- لا فأى مكان سيكون افضل من المكان الذى انا به! وضحك
- وماذا قالوا بعد ذلك؟
- سألونى: اين تقيم؟ فقلت بالزمالك فقالوا للسائق اطلع على الزمالك!
- وماذا قالوا عندما وصلت الى باب بيتك؟
- قالوا فرصة سعيدة!
وكانت علامات الدهشة لاتقارق وجه المذيعة وهى تستمع الى حادث كانه فصل فى مسلسل درامى مصرى حافل بالتقلبات الفجائية الغير معقولة وغير المبررة وختم نور بقوله انهم ارسلوا له حاجياته من السجن بعد ذلك ببضع ساعات.
كنت اتابع لقاء منى الشاذلى لايمن نور كما تابعت لقاءها المثير المحزن السابق لزوجته جميلة اسماعيل حوالى شهرين قبل ذلك عندما حاول البعض بل قاموا فعلا باحراق مقر حزب الغد على من فيه من قيادات واعضاء كانوا مجتمعين به ومنهم جميلة اسماعيل التى لم يهدأ لها بال طيلة سنوات حبس زوجها فراحت ترفع صوت قضيته ومظلمته فى كل المحافل داخل مصر وخارجها حتى احتارت القوى المعارضة لايمن نور فيها ولجأوا فى النهاية لاستئجار بعض البلطجية الذين رأهم المشاهدون فى تسجيل فيديو حى وهم يحملون انابيب الجاز ويلقون بها داخل مقر الحزب لتشتعل فيه الحرائق وماتزال هذه الواقعة الاجرامية رهن التحقيق!
كنت اتابع هذا كله بتعاطف عميق مع ايمن نور وعائلته فعندى ضعف شديد امام كل من يسجن فى مصر فى قضية لها شبهة سياسية كما الحال فى حبس د. سعد الدين ابراهيم و د.ايمن نور.
والسبب فى ذلك اننى قد عانيت تجربة ان يقاد والدى المسن القمص بولس باسيلى- وهو فى الرابعة والستين من العمر فى ساعة مظلمة من تاريخ مصر الى السجن هو وعدد كبير من رموز مصر السياسية والثقافية والدينية فى سبتمبر عام 1980 بقرار مفاجئ من الرئيس السادات ويعامل كالمجرمين فى زنزانة عارية الا من الارض الاسمنتية وحفر ة فى الزاوية كمرحاض وكان والدى مثل ايمن نور عضوا سابقا فى مجلس الشعب المصرى وظل فى السجن تسعة اشهر بلا محاكمة حتى افرج عنه بعد اغتيال السادات وبعد خروج معظم المعتقلين الآخرين-  وجريمته؟ بالطبع لاتوجد جريمة وانما توجد ذرائع يستخدمها النظام كلما عن له ان يعتدى على حرية وكرامة مواطن رفض ان يصمت او اراد ان يحلم بغد اجمل لمصر المحروسة ام الدنيا.
والعذر فى حالة والدى شفاه الله وهواليوم فى  الثالثة والتسعين من عمره انه تجرأ واعترض على اتهام الشيخ الشعراوى للأقباط بان كتابهم المقدس كتاب محرف فطلب من التلفزيون حق الرد والايضاح فرفض طلبه فوضع رده على ثلاثة شرائط كاسيت يوضح فيها فى اسلوب بالغ التهذيب موقف المسيحيين من اتهام تحريف كتابهم المقدس واستمر الشيخ الشعراوى فى سلسلة هجماته فى التلفزيون المصرى الممول من الدولة بينما القى بالقمص بوليس باسيلى فى ظلمة السجن بلا محاكمه!
تشويه صورة مصر:
من التهم او الاعذار الجاهزة التى استخدمها ومايزال النظام المصرى لتشويه ومطاردة واعتقال خصومه السياسيين تهمة مضحكة هى "تشويه صورة مصر فى الخارج" فكل من يرفع صوته احتجاجا على ظلم وقع عليه ولايجد من ينصفه داخل وطنه فيكتب او يعلن قضيته على الملأ فى مقال او فى مؤتمر يتهمونه بتلك التهمة الجاهزة المبتذلة. وهى نفسها التهمة التى حاكموا بها د.سعد الدين ابراهيم لأنه عقد مؤتمرا فى قبرص بعد رفض النظام عقده فى مصر عن اوضاع الاقليات فى العالم العربى وقد نشرت يومها مقالا عن هذا عنوانه "اتهموه بتشويه صورة مصر فمن الذى شوه الأصل؟"
والواقع ان الكثيرين من المسئولين يقومون هم انفسهم بتصرفاتهم التى تتسم بالعشوائية والفساد ومجافاة القانون بأكبر عملية تشويه لصورة مصر فى الخارج وعليك قراءة الصحف الاجنبية فى تعليقها على قضيتى سعد ابراهيم وايمن نور وكيف تكاد تجمع كلها على ان حبس هذين المعارضين السياسيين هو صورة من صور الفساد والتعدى على الحريات فى نظام شمولى لايسمح بمعارضة سياسية فعالة تهدد استمراره فى السلطة.
حين تقرأ النيويورك تايمز او الواشنطن بوست او غيرهم من الصحف العالمية الرصينة ستعرف ان احدا فى المراكز السياسية والفكرية فى الغرب لم ينخدع ابدا فى فهم دوافع هذه المحاكمات والسجون وان هذه الافعال هى التى تقوم بتشويه صورة وسمعة مصر وليس مافعله او قاله المتهمون!
قال ايمن نور بعد خروجه من سجنه: "هذه التجربة اتاحت لى تحديد حجم ازمة العدالة والاستبداد فى مصر وعرفت كيف ان دولة كبيرة تتم ادارتها بالتليفون!" وفى تغطية النيويورك تايمز للحدث تنشر على لسان الروائى المصرى المميز د.علاء الاسوانى قوله "انا سعيد لخروجه من السجن ولكنى حزين ان السلطة التنفيذية والرئيس يمكنه ان يتدخل مباشرة هكذا فى الشئون القضائية"
وهكذا ادى اسلوب الهرولة والارتجالية الذى صاحب اخراج ايمن نور من سجنه فجأة بلا ترتيبات مسبقة وكأن الامر كله قد جاء استجابة لمكالمة تليفونية ادى ويؤدى الى اندهاش الناس داخل مصر وخارجها لاسلوب ادارة بلد مثل مصر! واذا كان خروجه من السجن جاء هكذا بمكالمة تليفونية فكيف يصدق العالم ان دخوله السجن لم يحدث بنفس الشكل!
ولايسعنا سوى الحزن الشديد عندما نتذكر كيف هرولوا لرفع الحصانة البرلمانية عن ايمن نور لكى يزوجوا به فى السجن بينما تلكأوا بشكل فاضح فى رفع نفس الحصانة عن زميله فى البرلمان صاحب العبارة الشهيرة الغارقة الذى تسبب فى موت الف وثلثمائة مصرى حتى خرج من مصر ومايزال طليقا!
ان جريمة ايمن نور الحقيقية هى انه قام بتأسيس حزب الغد فى مناخ سياسى واجتماعى مايزال يعيش بمنطق الامس   وخطيئته الاصلية هى انه حلم بغد اجمل وانبل لمصر تسود فيه الديمقراطية والحريات الشخصية بينما ماتزال الشمولية هى روح النظام الحقيقى هذه الشمولية -  اى ان الوطن بكامل وشامل اركانه وهيئاته وقراراته المصيرية تظل رهن كلمة واحدة من فرد واحد لادور لكل من حوله ومن تحته سوى التنفيذ المهرول لقراراته ورغباته-   هذه الشمولية هى آفة مصر الحقيقية وهى مرضنا العضال الاساسى والمزمن.
ان الشمولية السلطوية للنظام من جانب والدروشة الدينية المتفشية فى الشارع المصرى فى الجانب الاخر هما الكارثتان الاعظم فى مصر اليوم ويؤديان معا لحالة الفشل والفساد والفقر والخروج من العصر التى نجد مصر عليها اليوم فالشمولية تعنى حضور وحلول الفرد الحاكم فى كل شئ وغياب المؤسسات والنظم والقوانين مما  يؤدي للفساد  و الفشل . وعليك القاء نظرة واحدة على حالة "نظام" المرور اليوم فى مصر لتدرك غياب اى نظام له وكذلك الحال فى نظام الاسكان والعمران فالعشوائيات المادية والسلوكية هى النظام الوحيد المهيمن وذلك بعد غياب الدولة عن دورها الحقيقى وانشغال القوى الحاكمة بمجرد اطفاء النيران ومحاولة احتواء كل مشكلة وكل اضراب بشكل ارتجالى وبالتليفون فى انهيار مؤسف لمفهوم الدولة العصرية فى مصر والذى سيتوج بمشروع توريث السلطة الذى هو السبب الاول لمحاربة النظام لايمن نور.
فالفرق بين المدنية- او الدولة العصرية- وبين القرية او اسلوب ماقبل الحداثة هو اساسا الفرق بين مجتمع العلاقات الشخصية فى القرية حيث كل انسان يعرف الاخر ويتعامل معه على اساس شخصى ومجتمع النظام المدنى والمؤسساتى حيث تنتفى العلاقات الشخصية وتخرج خارج دائرة القرار والفعل ويحتكم الافراد الى قوانين واساليب صارمة تحكم حركة النظام هذه النقلة النوعية من المجتمع الابوى الفردى الى المجتمع المدنى العصرى لم تتحقق فى مصر بعد وفى المجتمع الابوى القروى لاوجود لشئ اسمه ديمقارطية فالعمدة هو الآمر الناهى وشيخ الغفر هو ذراعه المنفذ. والعمودية تنتقل من الاب لإبنه الاكبر يأخذها بالوراثة ولايتخلى عنها الا بالموت.
وخطيئة ايمن نور وجريمته العظمى انه اراد ان ينتقل بمصر من المجتمع الابوى الشمولى الى المجتمع المدنى العصرى الذى وحده قادر على اعادة مصر الى مصاف الدول الحضارية الفاعلة حيث تهاوت فى ظل نظامها السلطوى الشمولى الفاسد من ناحية وثقافة الدروشة الدينية لشارعها المحبط الذى يداوى جراحه الجسدية والنفسية بالأحجبة والاعشاب ويهرب من واقعة البائس بالانغماس فى مظاهر وخرافات لاعلاقة لها بصحيح الدين من ناحية اخرى-  تهاوت مصر تحت وطئة هذين العاملين لتصبح فى قاع القوائم العالمية فى المجالات العلمية والثقافية والصحية والحضارية بما فى ذلك قوائم الحريات السياسية وحقوق الانسان.
وبين هذه وتلك يعانى المصريون العيش اليومى فى مجتمع انهارت دعائمه المادية والانسانية والوطنية واحدة وراء الاخرى. فاصبحوا فى ذيل شعوب الارض بعد ان كانت مصر هى رائدة المنطقة فى التحرر السياسى والاجتماعى والنهضة الثقافية والحضارية والتنمية الاقتصادية والبشرية.
جريمة ايمن نور هى جرأته على الحلم بغد افضل لمصر وللمصريين ولذلك لم يحتملوا ان يستمر فى حلمه لاكثر من 89 يوما استطاع فيها تأسيس حزب مثير واعد اجتذب الشباب والمثقفين والليبراليين والمخلصين من كافة فئات مصر ومنهم الاقباط واختار له النائبة منى مكرم عبيد لتكون سكرتيرة الحزب فى اعادة جميلة لروح حزب الوفد الذى فقد فاعليته للأسف الشديد وبدا ان حزب الغد فى طريقه لكى يكون معارضة سياسية حقيقية للنظام القائم وحزبه الوطنى الحاكم  الذى تشكل من فوق وليس من تحت ولذلك سارع النظام وحزبه بشن حرب شعواء على حزب الغد ومارسوا الضغوط على من التفوا حوله فاستقالت منى مكرم عبيد وانتهى الامر بالزج بايمن نور فى السجون.
ان ملحمة حزب الغد هى جزء اصيل وجميل من ملحمة الشعب المصرى المأساوية الطويلة المريرة للتحرر من قوى التسلط سواء كانت القوى الشمولية من الداخل او الاستعمارية من الخارج.
وفى الصراع مع الظلمة المستقبل دائما للنور.
  

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٦ تعليق